دور الإجتهاد القضائي الاجتماعي في تطوير نظام إثبات حوادث الشغل و الأمراض المهنية
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
دور الإجتهاد القضائي الاجتماعي في تطوير نظام إثبات حوادث الشغل و الأمراض المهنية
الباحث يونس شكران
باحث في
الإجتهاد القضائي
المغربي و المقارن
مقدمة:
إن نظام الإثبات في إطار حوادث
الشغل و الأمراض المهنية ، مر عبر مراحل كان الفاعل الجوهري فيها هو الإجتهاد
القضائي الإجتماعي بدءا بتقرير مسؤولية
المشغل طبقا لقواعد المسؤولية المدنية المرتكزة على إثبات الخطأ والضرر والعلاقة
السببية، مرورا بالتكييف القضائي لمسؤولية المشغل الذي جعل هذه المسؤولية مفترضة،
تستند إلى نظرية المخاطر المهنية التي يتحمل فيها المشغل المسؤولية، ما لم يثبت أنه
فعل ما كان ضروريا لدفع الخطر، وبأن الضرر راجع إلى قوة قاهرة أو حادث فجائي، أو
يعزى إلى خطأ الأجير، وصولا إلى مرحلة
التشريع الخاص التي في ظلها جعل المشرع
مسؤولية المشغل بدون خطأ حيث أعفى الأجير المصاب من إثبات الخطأ من جانب مشغله،
كما منع على هذا الأخير التنصل من مسؤوليته بناء على خطأ المضرور، والقوة القاهرة
والحادث الفجائي.
وإذا
كانت مسؤولية المشغل لا تقتضي إلا عنصرين واجبي الإثبات، وهما الضرر والعلاقة
السببية، فهذا لا يعني اختفاء عنصر الخطأ كليا، وإنما يتخذ هذا الأخير في حالة
خاصة كعنصر مهم واجب الإثبات، ومؤثر في مقدار التعويض، وذلك في حالتين الخطأ العمدي والخطأ غير المقبول.
وتطوير نظام الإثبات في حوادث
الشغل جاء عبر
الإجتهاد القضائي بابتكاره أسلوب جديد وهو قرينة الإسناد، التي نجحت إلى حد ما في
قلب عبء الإثبات، وجعله على عاتق المشغل، لكن يؤخذ على هذه القرينة أنها بسيطة
قابلة لإثبات العكس، لأنها تفتح الباب أمام المشغل أو مؤمنه للتنصل من مسؤوليتهما
إذا ما أثبتوا أن الحادثة راجعة إلى سبب خارجي تماما عن الشغل ، وبعجز قرينة
الإسناد في تحقيق حماية أكثر للأجير، افرز الإجتهاد القضائي قرينة التبعية والتي بواسطتها يتم افتراض خضوع الأجير
ليس بالنظر إلى تواجده في مكان ووقت الشغل ، وإنما إلى قيامه بتنفيذ أوامره
وتعليماته ،ولو كان ذلك خارج النطاق الزمني والمكاني للشغل ، وبذلك تهدف إلى تيسير
الإثبات من خلال دعهما لمضمون قرينة الإسناد، بشكل يؤدي إلى اتساع نطاقها لا إلى
تقييدها. ومن جهة أخرى تم تدعيم نظام الإثبات في حوادث الشغل بأسلوب آخر وهو
القرينة المادية و القرينة السببية ، والتي تعفي الأجير من إقامة الدليل على
التحقق المادي للحادثة.
لذلك إذا كان القانون المتعلق بحوادث شغل و الأمراض
المهنية 12/18 يعتبر استثناء من القواعد
العامة للمسؤولية، فإن المشرع المغربي حصر نطاق تطبيقه في وقائع معينة ، وبالتالي فإن كل حادثة تسببت في ضرر للأجير
أثناء وقت ومكان الشغل لا تتصف بصبغة حادثة شغل التي يحميها القانون المذكور إلا
إذا تم إثبات توفر شروط معينة في هذه الحادثة سنها المشرع و طورها الإجتهاد القضائي، من هنا برزت أهمية تطوير الإجتهاد القضائي لنظام إثبات
حوادث الشغل و الأمراض المهنية لإفتقاد الإثبات عبر القواعد العامة للدقة واصطدامه مع خصوصية
الإثبات في حوادث الشغل ، بحيث من هنا نطرح
التساؤل والإشكال الجوهري المتمثل في ماهي الأسس الواقعية و العناصر المادية التي يعتمد عليها الإجتهاد القضائي في إثبات
حوادث الشغل ؟، و كيف استطاع الإجتهاد القضائي تطوير نظام إثبات حوادث الشغل و
الأمراض المهنية ؟ و ما هي الوسائل التي يعتمدها الإجتهاد القضائي لاعتبار حادثة ما حادثة شغل؟ هل يلقى على عاتق
الأجير عبء الإثبات؟ أم أن الإجتهاد القضائي يستند على قرينة الإسناد و التبعية القابلة أو غير
القابلة لإثبات العكس؟ أم يستند الى نظرية الضرر المباشر و الغير المباشر؟
لهذا
و للإجابة
على الإشكال الجوهري و الأسئلة الفرعية سنعمد الى دراستها و معالجتها وفق ثلاثة ركائز سنعمل على
رصد و تحليل دور الاجتهاد القضائي في
إثبات عنصر الحادثة في أولا، كما سنعمد في ثانيا على دراسة مدى استناد الاجتهاد
القضائي على إثبات عنصر الضرر، على أساس مناقشة دور الاجتهاد القضائي في تكييف العلاقة
السببية في ثالثا.
أولا: دور الإجتهاد القضائي في
إثبات عنصر الحادثة
إن
إثبات أن الحادثة حادثة شغل يقتضي إثبات
أن عنصر الحادثة يتوفر على عناصر معينة، هذه الأخيرة ثار خلاف فقهي و اختلاف التوجهات القضائية حول أهميتها، لكن الإجتهاد
القضائي ابتدع عناصر أصبح مستقر عليها لإعتبار الحادثة حادثة شغل رغم عدم دقتها ، لذا يتعين أن نحدد عناصر الحادثة ثم نقوم بتقييم
تلك العناصر والذي سيفرز لنا أسلوبا جديدا في إطار الإثبات في حوادث الشغل وهو القرينة.
الفقرة
الأولى: عناصر الحادثة
حدد الاجتهاد القضائي عناصر
الحادثة أو الفعل الضار في السبب الخارجي، وعنصر العنف ثم عنصر الفجأة أو
المباغتة، لكن ثار خلاف فقهي و قضائي حول
أهميتها، وهذا راجع إلى عدم احتواء التشريع المنظم لحوادث الشغل الى تعريف دقيق لحادثة شغل والذي من شأنه لم يسهل الإثبات على
من يدعي أن الحادثة التي وقعت له هي حادثة شغل، والمادة 3 من القانون 12/18 تنص على انه : » تعتبر حادثة شغل كل حادثة،
كيفما كان سببها يترتب عنها ضرر، للمستفيد من أحكام هذا القانون، سواء كان أجيرا
أو يعمل بأية صفة تبعية كانت وفي أي محل كان إما لحساب مشغل واحد أو عدة مشغلين،
وذلك بمناسبة أو بسبب الشغل أو عند القيام به، ولو كانت هذه الحادثة ناتجة عن قوة
قاهرة أو كانت ظروف الشغل قد تسببت في مفعول هذه القوة أو زادت في خطورتها إلا إذا
أثبت المشغل أو مؤمنه طبقا للقواعد العامة للقانون أن مرض المصاب كان سببا مباشرا
في وقوع الحادثة.
ويقصد بالضرر في مفهوم هذا
القانون كل إصابة جسدية أو نفسية تسببت فيها حادثة الشغل وأسفرت عن عجز جزئي أو
كلي، مؤقت أو دائم، للمستفيد من أحكامه. »[i]
[1] ». ونهج
المشرع المصري نفس النهج بقوله: » كل واقعة تحدث أثناء العمل أو بسببه، تعد
الإصابة الناتجة عنها إصابة عمل
لهذا
فإن ما جاء في هذه النصوص أقرب من أن يكون بيانا لطبيعة علاقة الإرتباط بين الحادث
والنشاط المهني، وتعريف عام لحادثة الشغل يفتقد للدقة وتبيان عناصرها،وعدم تعريف حادث
شغل بدقة هو نهج كل تشريعات الدول المختلفة لصعوبة دمج مختلف الإجتهادات القضائية
و الفقهية في تعريف موحد شمولي يعطي تعريف دقيق.
وأمام
عدم دقة المشرع في تعريف حادثة الشغل، قام
القضاء المغربي بوضع تعريف لحادثة شغل فاعتبرها: »ما يصيب جسم الإنسان فجأة
بفعل عنيف وبسبب خارجي » وهو نفس التعريف الذي أتى به الفقه والقضاء الفرنسي
حيث جاء يقول في تعريفه لحادثة شغل: » الواقعة التي تلحق بالعامل على إثرها
أضرار جسدية وتتميز بالمباغتة والعنف وتجد مصدرها في سبب خارجي»[2]
وانطلاقا من هذا التعريف القضائي
يمكن القول أنه لإثبات أن حادثة ما تعتبر حادثة شغل وضع الإجتهاد القضائي مجموعة
من العناصر يجب إثبات توافرها تتمثل في : عنصر السبب الخارجي ـ العنف ـ الفجأة ،
لهذا نقوم بتحديد مفهوم كل عنصر على حدة و
مدى أهميته في مجال الإثبات، و كيف ابتدع الإجتهاد القضائي هذه العناصر التي أصبح
مستقر عليها رغم عدم دقتها هي الأخرى ،لكن على الأقل تساعد القضاء في إثبات حادثة
الشغل.
يماثل ا) العنصر الأول: السبب الخارجي:
وهو كما اعتبره الفقه والقضاء الفرنسي القوة
التي لا ترجع إلى التركيب العضوي للمضرور، أي إلى تكوينه الطبيعي.[3]
إذا كان الأمر كذلك فإنه يصعب
عمليا إثبات الصفة الخارجية للحادث خاصة في الحالات التي تكون فيها الإصابة غير
ظاهرة وإن كانت مؤكدة في وجودها، مما دفع القضاء إلى خلق اجتهادات قضائية أكثر مرونة حيث ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى
أنه:
» إذا كانت فكرة حادث العمل تتطلب وجود مساس مادي بالجسد بمعنى
إصابة ناتجة عن تدخل عامل خارجي فإن هذا الشرط يتحقق إذا ثبت أن الإصابة ترجع إلى
الجهد، حتى ولو كان هذا الجهد قد بذل في تنفيذ عمل عادي اتصل بنشاط العامل. »[4]
وفي نفس الاتجاه تعتبر بعض الأحكام القضائية[5]
أن »الجهد يماثل الحادث» وبالنسبة لبعض الفقه المغربي، اعتبر السبب الخارجي بمثابة
كل سبب لا يعود إلى البيئة الجسمية للمصاب واعتبر هذا الفقه أن هذا العنصر يتجلى
في كل عامل مادي أو معنوي خارجي
عن التكوين البيولوجي للمصاب،
والعامل المادي قد يكون أداة من أدوات الشغل، أو فعل الحيوان، أو الحرارة، أو
الكهرباء، أو قوى الطبيعة …
أما العامل المعنوي فقد يتمثل في
الإصابة بصدمة نفسية بمثابة حادثة شغل كالصدمة التي اعترت سائق الشاحنة بعد أن داسه
أحد المارة فأرداه قتيلا وبعد أن نظر إلى جثته، رأى مخه مشتتا على الأرض "[6]
وهكذا إذا كان سبب الإصابة راجع
على عامل داخلي للمصاب، كإصابته بالمرض أو كونه عرضة سهلة للأمراض، فإنه لا يمكن
أن يستفيد من الحماية التي يقررها القانون 12/18، لعدم وجود سبب خارجي، و بالتالي
استناد الإجتهاد القضائي على العنصر الخارجي أصبح مستقر عليه لاعتبار الحادثة
حادثة شغل.
ب)العنصر
الثاني: عنصر العنف: إن عنصر العنف كما هو الشأن
بالنسبة للعنصر الأول يتخذ صورة النشاط المادي أو العنف المعنوي، بالنسبة للنشاط
المادي كبتر عضو من أعضاء الجسم من قبل الآلة وإصابة الأجير بحروق أو الانزلاق
الذي يؤدي الى الكسر، أما بالنسبة للعنف المعنوي كإصابة العامل بانهيار عصبي أو
أزمة نفسية نتيجة مشاهدته لمشهد مروع.
وهكذا فقد توسع الاجتهاد القضائي
في مفهوم هذا العنصر ولا يكتفي فقط تحقق عنصر العنف ببروز آثار مادية على جسم
المصاب، بل إن الإضطرابات العصبية وما ينتج عنها في القوى العقلية أو النفسية تدخل
كذلك في مفهوم العنف الذي يقتضيها تعريف حادثة شغل.[7]
ج) العنصر الثالث: عنصر الفجأة:
المقصود بهذا العنصر هو أن تكون الحادثة قد وقعت في فترة وجيزة يمكن تحديد وقت وقوعها
بكل دقة وحصر المكان الذي وقعت فيه بالضبط، ولا يقصد هنا الحادثة التي نتجت عنها
آثار بعد مدة زمنية.
وباعتماد الاجتهاد القضائي على
هذا العنصر فإن وجود عنصر المباغتة في الحادثة، وحصول ضرر، يجعل المصاب يستفيد من
قرينة الإسناد أي إسناد الضرر للحادثة، وبالتالي اعتبارها بمثابة حادثة شغل، وهذا
العنصر إن كان عنصرا أساسيا في تعريف الحادثة
،[8] والقضاء
المصري يشهد على أهمية هذا العنصر بقوله في تعريف الحادثة أنها: فإنه
يعد أساسا للتمييز بينها وبين المرض المهني
» الواقعة التي تتحقق بغتة بفعل
قوة خارجية » وفي نفس الإتجاه يعتبر القضاء الفرنسي: » أن الظهور
المفاجئ في وقت ومكان العمل لإصابة جسدية يكون في حد ذاته حادثة عمل ما لم يقم
الدليل على نسبتها إلى سبب أجنبي تماما عن العمل. »[9]
وهذا الاتجاه هو ما سار عليه
الاجتهاد القضائي المغربي و الفرنسي اللذان يصرحان انه مادامت الجروح ظهرت بغثة
بفعل عنيف أثناء العمل ، فالمفروض فيها أن تكون ناتجة عن حادثة شغل.[10]
. الفقرة
الثانية: القرينة
فكرة القرينة والتي ابتدعها الإجتهاد
القضائي الفرنسي لم تظهر إلا بعد عجز وعدم دقة العناصر التي تطرقنا إليها سابقا
وهي السبب الخارجي والعنف والفجأة، في تحديد مفهوم حادثة شغل وكونها لا تعطي حماية
أكبر للأجير وإنما تلقي على عاتقه إثبات صعب في غالب الأحيان، وكون القرينة إفراز
لعدم جدوى تلك العناصر فمن المفيد أن نبين سلبيات وعدم دقة كل عنصر على حدة حتى
نتمكن من فهم فكرة القرينة كمعيار لتحديد حادثة شغل، فبالنسبة للعنصر الأول أي
السبب الخارجي، فإن ما يلاحظ عند الاطلاع على بعض القرارات القضائية سواء في
المغرب أو في فرنسا، أنه غالبا ما لا تلتزم تلك القرارات بعناصر تعريف حادثة شغل
التي وضعها الاجتهاد القضائي، ذلك أنها تعتبر بعض الحوادث بمثابة حوادث شغل رغم
افتقارها لعنصر السبب الخارجي و أكثر من ذلك تعتبر الفعل الضار الذي لا يعرف له
سبب بمثابة حادثة شغل، ومن هذه القرارات قرار محكمة النقض الصادر في 24 مارس 1964
الذي يعتبر فيه:
» الوفاة التي لم يعرف سببها
والحاصلة للأجير في مكان ووقت العمل وهو يقوم بشغله العادي تعد بمثابة حادثة شغل.
».[11]
ونفس
الاتجاه يسير فيه القضاء الفرنسي في اعتبار عنصر السبب الخارجي عنصرا غير أساسي
ويستفاد ذلك من إحدى قرارات محكمة النقض الفرنسية حين اعتبرت: » إن الشعور
المفاجئ لإصابة جسدية يكون في حد ذاته حادث عمل. »[12]
تأسيسا
على هذه القرارات القضائية وغيرها، نستنتج أن العنصر الأجنبي غير مؤثر في تكييف
الفعل الضار بأنه حادثة شغل، وليس كذلك عنصرا مميزا بين حادثة شغل والمرض المهني،
وهذا الموقف هو الذي تبناه غالبية الفقه الفرنسي لأن القضاء الفرنسي هو بدوره أقصى
هذا العنصر في تحديد حادثة شغل.
من تم سيكون القضاء في كل من
فرنسا و المغرب قد نجحا في قلب عبء
الإثبات لصالح الأجير حيث تم إعفاؤه من إثبات الصفة الخارجية للفعل الضار، حيث
بمقتضى ذلك يستفيد من قرينة الإسناد، هذه
الأخيرة التي تعتبر كل إصابة تحققت في وقت ومكان العمل تعد حادثة شغل ما لم يقم
الدليل على عكس ذلك أي أن الحادث يجد مصدره في ظروف أجنبية تماما عن العمل.[13]
وفي حالة عدم إثبات الدليل العكسي
فإن الأجير يقرر له الحق في التعويض، وفي هذا الإطار ذهبت محكمة النقض الفرنسية
إلى القول: » طالما أن الإصابة ظهرت بمناسبة العمل فإن الموظف يستفيد من قرينة
الإسناد ما لم يقم الدليل على عكس ذلك»[14]
وبالنسبة
لعنصر العنف فإنه هو كذلك لم يعد أساسيا لتكييف الفعل الضار على انه حادثة شغل،
ذلك أنه يمكن أن نكون أمام حادثة شغل رغم افتقاره لصفة العنف كما هو الشأن عند
إصابة الطيار بأزمة قلبية، فالاجتهاد القضائي يعتبر هذه الحادثة بمثابة حادثة شغل
رغم عدو وجود عنصر العنف فيها.[15]
وصورة
أخرى يضربها الفقه لتصوير هذه الحالة وهي الإصابة بالتيفوس إثر لدغة حشرة حدثت
أثناء العمل فهي حادثة شغل رغم انتفاء عنصر العنف فيها، وحالة أخرى عرضت أمام
القضاء الفرنسي وكان موقفه هو:
» أن الآلام التي يشعر بها مهندس على إثر
شربه ماء يحتوي على جرثوم والتي تسبب له أضرارا أقام على إثرها مدة طويلة في
المستشفى ليغادره مصابا بعجز جزئي دائم يعتبر بمثابة حادثة شغل»[16]
بذلك
تتقوى حماية المصاب بحادثة حيث يعفى من إثبات عنصر العنف والذي يشكل عائقا في
الحصول على التعويض في الحالات التي لا تتصف فيها الحوادث التي يتعرض لها بصفة
العنف رغم الأضرار البليغة التي قد تنتج عنها، وهذا ما حدا ببعض الفقه إلى اعتبار
هذا العنصر غير لازم لافتقاره إلى الدقة وذلك بقوله: » إذا كان هناك ضرر قد
يتحقق فجأة ووجدت علاقة ارتباط كاف بين ظهوره ونشاط المضرور، فلماذا يحرم ضحيته من
الاستفادة من أحكام الحماية الاجتماعية في مواجهة إصابات العمل. »[17]
وفيما
يخص العنصر الأخير أي عنصر الفجأة ، فإن بعض الفقه يعتبره لازما خاصة في التمييز
بين حادثة شغل والمرض المهني لكن في مقابل ذلك نجد رأيا آخر يسير في اتجاه مغاير
وذلك بقوله: » إن اتخاذ القضاء من الظروف الزمنية لتحقيق الواقعة مصدر
الإصابة معيارا للتميز بين الحادث والمرض أدى إلى نتائج عملية لا تتفق والمنطق
القانوني.[18]
ويبرر هذا التصور غياب العدالة في
اشتراط عنصر الفجأة الذي يضيق من حماية المصاب، كونه أنه من الأمراض ما تتصف أو
تظهر فجأة، وكذلك هناك من الحوادث التي لا تظهر فجأة وإنما مع وقت طويل، مما يعني
معه عدم صلاحية عنصر الفجأة كعنصر مميزا بين حادث شغل والمرض المهني لأنه إذا كان
صحيحا أن عنصر المباغتة يعد أساسيا فيما مضى فإن التطور الصناعي والاجتماعي أثبت
عدم جدية وعدم دقة عنصر الفجأة.
لذلك
أن التمييز بين حادثة شغل والمرض المهني على أساس عنصر الفجأة لا يجب أن يكون، لأن
ذلك يلقي على عاتق الأجير المصاب عبء إثبات صعب في كثير من الأحوال مما يهدد
مصالحه للضياع.
ومن
تم فإن المنطق والعدالة تفرض تعويض المصاب متى حدثت له الإصابة بسبب المهنة
اعتمادا على قرينة الإسناد التي ابتدعها القضائي الفرنسي وسمحت بإعطاء حماية أكبر
للأجير وإعفاءه من إثبات كل العناصر السالفة الذكر. الاجتهاد
وهذه القرينة بسيطة قابلة لإثبات
العكس فهي تقتضي أن الحادثة مصدر الإصابة التي تقع في وقت ومكان العمل يتم إسنادها
إلى العمل، ولا يمكن دحض ذلك إلا بإثبات غياب العلاقة بين الحادثة وعمل المصاب،
وعلى هذا يذهب القضاء الفرنسي بقوله: » كل حادثة تقع في وقت ومكان العمل يجب
اعتبارها بمثابة حادثة شغل إلا إذا أقيم الدليل على عكس ذلك أي إلى نسبتها إلى سبب
أجنبي تماما عن العمل. »[19]
من خلال ذلك فالأجير غير ملزم
بإثبات الحادثة ، حيث يستفيد من قرينة الإسناد، لكن هذه الأخيرة كما يتضح ليست
قاطعة بل قابلة للدحض بمعنى أنه يمكن للمشغل أو لمؤمنه أن يتنصلا من مسؤوليتهما
إذا تم إثبات أن الحادثة راجعة إلى سبب خارجي تمام عن العمل، وقضت محكمة النقض
الفرنسية أن إثبات غياب الفعل الضار غير
كاف لدحض القرينة، و الدليل العكسي لا يمكن قبوله إلا إذا تم تبيان أن سبب الحادثة
راجع إلى سبب أجنبي تماما عن العمل.[20]
وبدوره
القضاء المغربي يسير في نفس الإتجاه الذي يعتمد على العناصر السالفة الذكر وهذا ما
يمكن ملاحظته واستنتاجه في بعض قرارات محكمة النقض التي اعتبرت أن : » …
الوفاة التي لم يعرف لها سببها والحاصلة لأجير في مكان الشغل وهو يقوم بشغله
العادي تعد حادثة شغل»
وفي قرار آخر اعتبرت أن : »
العامل الذي يدخل سيارته إلى المرآب طبقا لتعليمات صاحب عمله والذي وجد ميتا داخل
سيارته بعدما أوقفها داخل هذا المرآب يعتبر أنه قد أصيب في حادثة شغل، لأنه لازال
يوجد وقت إصابته تحت التبعية القانونية التي تربطه بصاحب العمل من جهة أولى ومن
جهة ثانية لأن أسباب الوفاة لم يكن بالإمكان تحديدها، وفي هذا الاتجاه يذهب بعض
الفقه المغربي إلى أن « الحادث الذي يصاب به الأجير أثناء قيامه بعمله أو
بمناسبة قيامه به يعد حادث شغل ما لم يثبت عكس ذلك، إما إثبات أن الأجير المصاب
عرضة سهلة للأمراض وإما إثبات أن وضعيته المرضية هي التي كانت سببا في إصابته. «[21]
لذلك
أن وجود هاتين الحالتين التي تؤدي إلى نقض قرينة الإسناد يفتح الباب أمام المشغل
أو مؤمنه ليتنصلا من مسؤوليتهما.
ثانيا:
دور الإجتهاد القضائي في إثبات عنصر الضرر
متى علمنا بأهمية عنصر الضرر
بالنسبة للأجير المصاب في الحصول على التعويض لكون هذا الأخير يعتبر مناط تحقق
المسؤولية عن حوادث الشغل، فلا يمكن من الناحية القانونية تكييف حادث ما، يتعرض له
الأجير أثناء قيامه بالشغل، أو من جراء قيامه به، على أساس أنه حادث شغل، يستحق
عنه التعويض، إلا إذا نتج عنه ضرر للأجير المصاب ، وهذا أمر بديهي مادام أن الأجير
الذي قد يتعرض لحادثة بالمفهوم الدارج لها، ولكنه لم يلحقه أي ضرر، ففي هذه
الحالة، لا نكون أمام حادثة بالمفهوم القانوني وذلك لانتفاء عنصر الضرر، ونموذج الذي
نضر به في هذا المجال، الأجير الذي يسقط في مكان العمل أو يصاب بصعقة كهربائية ولا
يصاب بأي أذى يذكر، ومتى كان الأجير أمام هذه الحالة فلا يمكن له التمسك
بالاستفادة من مقتضيات التشريع الخاص بالتعويض عن حوادث الشغل وذلك لتخلف شرط من
شروط ذلك التعويض.
أما في الحالة المعاكسة،
والمتمثلة في إلحاق ضرر بالأجير من جراء حادثة شغل، كأن تظهر عليه جروح، أو كسر،
على إثر سقوطه، فإنه في هذه الحالة يعوض استنادا إلى مقتضيات القانون 12/18،
وبرجوعنا إلى مقتضيات الفصل 78 من ق.ل.ع. يتضح لنا أن الضرر في مجال المسؤولية
المدنية قد يكون ماديا أو معنويا، علما بأن الضرر المادي قد يمس جسم الإنسان، وقد
يمس ذمته المالية، انطلاقا من مضمون هذا الفصل يتبادر إلى ذهننا تساؤل له أهمية
بالغة نود طرحه في هذا المجال ، هل كل ضرر يلحق الأجير يخوله الاستفادة من مقتضيات
القانون 12/18، أم هناك أضرار حددها المشرع على سبيل الحصر، هي وحدها الكفيلة
للاستفادة من مقتضيات القانون
السالف
الذكر؟
وعند تفحصنا لمقتضيات هذا القانون،
لا نجد جوابا مباشرا لهذه الإشكالية، لكن هذا لا يمنعنا من الإستنتاج ضمنيا من بعض
المقتضيات الخاصة بالتعويض، أن الأضرار التي يعوض عنها في إطار هذا القانون هي:
الضرر الذي يصيب جسم الأجير، والضرر الذي يستلزم نيل إصلاح أجهزة استبدال أو تقويم
الأعضاء..
. وهي التي سنتناولها بالدراسة في
الفقرة الأولى بينما سنخصص الفقرة الثانية
لكيفية إثبات عنصر الضرر
الفقرة الأولى: الضرر الواجب
الإثبات
لاشك و أن عنصر الضرر عنصر جوهري
في تعويض الأجير جراء حادثة شغل لكن هذا الضرر يجب أن يصيب جسم الأجير أو
أن يكون الضرر الذي يستلزم نيل أو
إصلاح أجهزة الاستبدال أو تقويم الأعضاء، أما الضرر الذي يصيب الحيوان رغم كونه في
ملكية الأجير مثلا فهو غير معني بالتعويض ، و الإجتهاد القضائي سار على هذا المنحى
.
ا
ـ الضرر الذي يصيب جسم الأجير
عرفه الاجتهاد الفقهي الفرنسي على
أنه: » يتمثل في مساس مادي بالخلايا، وبالأنسجة التي تدخل في التركيب الداخلي
أو الخارجي للجسم، وقد تتمثل في مساس بالأداء الوظيفي لعضو من أعضائه. » فاستنادا،
لهذا التعريف الموسع للضرر، يجب على الأجير المتضرر
طبيا هذا الضرر، سواءا تحقق
بالفعل،أو سيتحقق حتما في من
جراء حادثة شغل إذا ما أراد الحصول على التعويض، أن يثبت
المستقبل.[22]
وهذا هو المنحى الذي سلكه المشرع المغربي ويتضح
هذا بالخصوص في كون إصابة الجسم البشري، هي مناط تطبيق المقتضيات المنصوص عليها في
القانون 12/18على الفعل الضار، الذي قد يتسبب فيها وهذا دون إعطاء القضاء أية
أهمية لطبيعة الضرر أو لنوعه
أو لمحل الإصابة أو لنسبة العجز
الذي قد ينتج عنها، وكذلك لا يعتد بخطورة الإصابة، أو بكونها هينة، أو كذلك في ما
إذا كانت قد أدت إلى توقف الأجير المصاب عن العمل، أم لا، وكمثال على هذه الحالة
الأخيرة الأجير المتضرر من جراء إصابة شغل نتيجة جروح خفيفة اضطرته إلى تلقي
العلاج الطبي دون توقف عن العمل، ومتى كان الأجير أمام هذه الحالة، وقع على عاتق
المشغل التحمل
بالصوائر الطبية، والصيدلانية..
ومما
تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو كون الضرر الجسدي الناتج عن حادثة شغل والمتمثل
في المساس المادي بالخلايا والأنسجة التي تدخل في التركيب الداخلي أو الخارجي
للجسم فإنها لا تطرح لنا أي إشكال قانوني، سواء عندما يتعلق الأمر بالإثبات، إذ من
السهولة بمكان التثبت منها بواسطة المعاينة أو التشريح … (جروح، كسور …) وسواء
تعلق الأمر في البحث أو الكشف عن أسباب الضرر الحقيقة والمتمثلة في المساس بالأداء
الوظيفي لعضو من أعضاء الجسم، ولكن في بعض الأحيان قد تثار صعوبة التوصل إلى سبب
الضرر ولو بواسطة التشريح … وفي هذه الحالة لا يوجد بديل من الاستعانة بقرينة
الإسناد التي بموجبها تجتمع للضرر عناصر إصابة العمل طالما أن الواقعة التي ظهر
على إثرها غير مشكوك في تحققها.
وكما تجدر الإشارة أيضا إلى أن هناك نوع من
الضرر الجسدي،الذي يتجسد في فقد القدرة على الأداء الوظيفي الطبيعي، بحيث يستحيل
معها من الناحية التشريعية الكشف عن أصله، كما يستحيل أيضا معها افتراض وجود مثل
ذلك الأصل، وأحسن مثال يجسد لنا هذه الحالة: الإضطرابات التي قد تنتج على حوادث
الشغل، فبالنسبة للقضاء الفرنسي فموقفه واضح إذ يقرر التعويض عن اختلال القوى
العقلية باعتبارها حادثة شغل[23]
ونفس المنحى يسلكه القضاء المغربي[24].
ومحكمة النقض الفرنسية لا تولي
أية أهمية في مجال قرينة الإسناد، بحيث أنها لا تفرق بين الإصابة التي تتمثل في
مساس مادي بالجسم وتلك التي تتمثل في
اختلال الأداء الوظيفي الطبيعي لعضو من أعضائه ، فالإصابة متى ظهرت بغتة كيفما
كانت طبيعتها ودرجة خطورتها في وقت ومكان العمل تؤدي طبقا لقرينة الإسناد إلى
إعفاء الأجير المصاب من عبء إقامة الدليل على تحققها.
كما يعد ضررا كذلك الضرر المادي
الذي ينتج عن تشويه جسم الأجير، وبالتالي المساس بسمته الجمالية وحسب الإجتهاد
القضائي فإن الأجير يعوض لكن بشرط أن يعكس هذا التشويه على قدرته على العمل،
وخصوصا متى كان عمله يكمن في الاتصال المستمر بالزبائن.[25]
ب
ـ الضرر الذي يستلزم نيل أو إصلاح أجهزة الاستبدال أو تقويم الأعضاء
والسؤال
الذي نود طرحه في هذا المجال هو هل لكي يعوض عن الضرر، لابد وأن يتعلق بجسم
الإنسان، أم أنه يشمل مسائل أخرى، كملابس الأجير ودراجته وسيارته مثلا؟
للإجابة عن هذه الإشكالية لابد من
التمييز ما بين حادث الطريق التي حددتها المادة الرابعة من القانون 12/18في الزمان
والمكان، تأخذ صفة حادثة شغل ذلك من حيث ما تخوله للمصاب من تعويضات حسب مقتضيات
هذا القانون، بالإضافة إلى أنها تعطيه إمكانية الرجوع على الغير المتسبب فيها وذلك
وفقا لمقتضيات القواعد العامة للمسؤولية، هذه الأخيرة، تغطي كل الأضرار الحاصلة
له بما في ذلك التعويض عن الملابس
ووسيلة التنقل.
أما بالنسبة للحالة الثانية وهي
حالة ما إذا كان الغير هو المتسبب في حادثة الشغل فإن الأجير المصاب في هذه الحالة
يملك الحق في الرجوع على هذا الغير وفقا للقواعد العامة للمسؤولية من أجل الحصول
على تعويض يغطي بصفة شاملة كل الأضرار.
أما
في الحالة المعاكسة والمناقضة للحالتين السالفتين الذكر حيث يكون فيها الفعل الضار
بحادثة شغل، نتجت بسبب العمل أو بمناسبة القيام به، وسواء تسبب فيها المشغل أو أحد
تابعيه، ففي هذه الحالة، يكون التعويض جزافيا.
وهذا
لم يمنع المشرع المغربي، وهو بصدد تناوله للضرر الذي يصيب جسم المصاب، أن يلحق به
حالة أكثر أهمية نظرا لما تكتسيه في الواقع العملي من دور مهم، وتتمثل هذه الحالة
في أجهزة استبدال أو تقويم الأعضاء حيث كان موقفه صريحا من خلال مقتضيات المادة 41
من القانون 12/18 ، التي بموجبها : »يخول
للمصاب الحق في نيل وإصلاح وتجديد أجهزة استبدال أو تقويم الأعضاء التي تفرض
الحادثة استعمالها، وكذا الحق في إصلاح أو تعويض الأجهزة التي فرضت استعمالها عاهة
سابقة ولو كانت غير ناتجة عن حادثة من حوادث الشغل، والتي أفسدتها الحادثة أو سببت
ضياعها أو جعلتها غير صالحة للاستعمال.
ويحدد بمرسوم يتخذ باقتراح من
السلطتين الحكوميتين المكلفتين بالتشغيل وبالصحة نوع الأجهزة وقيمتها وشروط
تخصيصها وإصلاحها وتجديدها. »
ما يمكن أن نخلص إليه انطلاقا من
هذه المادة كونها لا تخلو من إيجابيات، والمتمثلة في تخويلها للأجير المتضرر من
جراء حادثة شغل الحق في تعويض الأجهزة التي تفضي عنها الحادثة، أو تنال من قدرتها
باستبدالها، أو بتقويمها بأجهزة أخرى، كالأسنان والأرجل والأيدي الصناعية، لكن مع
كل ذلك فإن هذا النص لا يخلو أيضا من سلبيات، إذ مما يؤخذ عليه، كونه يربط تقديم
الحق في التعويض المستحق للأجير المتضرر، ببعض الحواجز، من ذلك مثلا ضرورة اقتران
الضرر المتمثل في تلف الأجهزة المشار إليه في المادة أعلاه بضرر جسدي.
ومن بين الصور التي نضربها لتصوير
مثل هذه الحالة، افتراض كون الأجير سقط في مكان الشغل نتيجة زلة قدم ولم تلحقه
أضرار في جسمه، وإنما تكسرت على إثرها أسنانه الإصطناعية، تحطمت نظارته، فمتى كان الأجير
أمام هذه الحالة فإنه لا يستحق أي تعويض، لأن الفعل الضار المتمثل في السقوط
والخالي من الإصابة الجسمية لا يعتبر حادثة شغل في المعنى المألوف، وهذا ما تسير
عليه محكمة النقض الفرنسية ، أما عن الإجتهاد القضائي المغربي فيظل موقفه غامضا
لحد الآن وذلك راجع إلى افتقاره لإجتهادات تجسد هذه الحالات.
لكن
وفقا لقواعد العدل و الإنصاف يحبذ التعويض
عن هذه الأجهزة إذا أصيبت لوحدها، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود ضرر جسدي، لكون إعمال
هذه القاعدة، كونها لا تتعارض وليس فيها أي تحريف للفعل الضار، بل يعتبر من
العدالة بمكان عدم الاعتداد باقتران تلف تلك الأجهزة الإصطناعية بالضرر الجسدي.
وهذا فيه مصلحة للأجير المتضرر،
إذ يحقق له الحماية اللازمة باعتباره الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية، لكن
تطبيقه يجب ألا يكون مطلا بل معلقا على شرط، وهو كون الأجير يستعمل الجهاز المقوم
لما أعد له ساعة ضياعه أو إتلافه من جراء الفعل الضار.
والإستدلال
الذي يمكن أن نستدل به في تقرير الحق في التعويض، هو أنه باعتبار الجهاز الإصطناعي
المقوم والمساعدة لعضو من الأعضاء في جسم الإنسان، بمثابة هذا العضو الأصلي، فإذا
أصيب الأجير بحادثة شغل ترتب عنها تلف الجهاز الإصطناعي دون الإصابة بضرر جسدي،
فإنه مع ذلك يجب اعتبار ضياع هذا الجهاز بمثابة ضرر في جسمه، لأنه لولا هذا
الجهاز، لكان من الممكن أن تكسر الرجل الطبيعية.
الفقرة الثانية : كيفية إثبات
الضرر
لكي يستفيد الأجير المتضرر من جراء
الضرر الحاصل به بسبب حادثة شغل، من التعويضات التي يخولها له القانون 12/18، يسعى
القضاء في هذا المجال لإثبات الضرر بالخبرة الطبية الضرورية، باعتبار الضرر واقعة
مادية، يدخل أمر تقديرها واستخلاصها للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع، وإذا كان من
السهولة بمكان التوصل إلى هذا النوع من الإثبات، فإن هناك حالات يستعصى فيها إثبات
عنصر الضرر بالنظر إلى ظروف العمل، وفي هذه الحالة لا يجد القضاء مانعا من
الاستعانة بالقرائن مساعدة منه للأجير في ذلك الإثبات، مثلا إذا تعرض الأجير
لحادثة شغل ونتج مباشرة عنها ضرر، افترض معها القضاء أن الحادثة هي التي تسببت
فيه، وهذا الاقتران يعد في حكم القضاء إعمالا لتقنية القرينة، وهذه الخبرة تعتبر
في هذا المثال بسيطة، بمعنى أنها تقبل الدحض العكسي من جانب المشغل أو مؤمنه، متى
أثبتوا أن الحادثة ترجع إلى سبب آخر خارج عن الشغل.
وفي هذا الصدد سبق لمحكمة النقض
الفرنسية أن صرحت مرارا بما يلي: » … كل إصابة تلحق بالعامل إثر الحادث تتحقق
بسبب أو بمناسبة العمل يجب اعتبارها، ما لم يثبت خلافه، أثرا لهذا الحادث. »[26]
ومن
أهم القرارات التي صدرت عن محكمة النقض الفرنسية قرار جاء فيه: » … إن وفاة
العامل بعد شهور بغتة أثناء العمل بأعراض آلام حادة بينما كان يبدو قبل ذلك في
تمام صحته، تعتبر حادثة شغل، مادامت أسباب الوفاة قد ظلت مجهولة، ولم يقم الدليل
على أنها ترجع إلى حالة مرضية ذات تطور بطيء. »[27]
ويعتبر
هذا القرار في حقيقته تراجعا من جانب محكمة النقض الفرنسية، حيث اشترطت لكي تعتبر
مثل هذه الواقعة حادثة شغل، أن تكون هنالك إصابة جسدية مصاحبة للشعور بالأذى، ثم
التثبت منه طبيا.
ومن
أهم القرارات التي صدرت بهذا الخصوص كذلك قرار جاء فيه: » … إن وفاة العامل
الذي أوجد الجزء العلوي من جسده غارقا في برميل يحتوي على خليط من الزيت والماء
حادثة شغل»[28]
لذلك فإن محكمة النقض قد ألغت
الحكم الصادر عن محكمة الإستئناف والتي ألقت على عاتق أرملة الأجير عبء الإثبات
خلافا لما تقضي به قرينة الإسناد، وفي نفس الاتجاه جاء قرار محكمة النقض: »
إن كل ضرر يحصل من جراء حادثة تقع بسبب الشغل أو بمناسبة القيام به، يجب اعتباره
ناتجا عن حادثة شغل إلا إذا أقيم الدليل على خلاف ذلك»[29]
وجاء
في قرار آخر بنفس الإتجاه ما نصه: » إن وفاة الأجير التي تحصل بسبب سكتة
قلبية أثناء الشغل يفترض أنها ناتجة عن حادثة شغل ولهدم هذه القرينة، فإنه يجب على
المؤاجر أو على مؤمنه أن يثبت مرضا سابقا للمصاب وأن يقيم الدليل على أن الأزمة
القلبية لم يتسبب فيها الشغل»[30]
لكن في الحالة المعاكسة فإن إصابة
الأجير من جراء حادثة شغل أو بمناسبته، ولم تظهر الأضرار مباشرة بعد الحادث، بل
استغرقت مدة طويلة ففي هذه الحالة عكس الحالة السابقة التي رأيناها، فإن القرينة
أعلاه تنقلب لمصلحة المشغل أو مؤمنه، بحيث على الأجير المتضرر أن يقيم الدليل على
علاقة هذا الضرر بالحادثة، وفي هذا الصدد جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالرباط ما
يلي:
بالتعويض
عن حوادث الشغل، إذا لم تتمكن أرملة العامل المصاب بحادثة
شغل الذي » لا يمكن تطبيق التشريع
المغربي الخاص
لذلك فان الإجتهاد القضائي
المغربي و المقارن رغم تضاربهما في بعض
القرارات بخصوص الاستناد على عنصر الضرر كأساس لاعتبار الحادثة حادثة شغل ، لكن
ساهمت مختلف القرارات القضائية في تطوير
نظام الإثبات في قضايا حوادث الشغل عبر البحث على عنصر الضرر.
ثالثا: دور الإجتهاد القضائي في إثبات
العلاقة السببية
كل حادثة يتعرض لها الأجير لا
يمكن اعتبارها بمثابة حادثة، إلا إذا ثبت أن هناك علاقة بين هذه الحادثة والشغل، نظرا
للطابع الإستثنائي للقانون 12/18 ، وجاءت المادة 3 من القانون المذكور بالقول انه : »
تعتبر حادثة شغل كل حادثة، كيفما كان سببها يترتب عنها ضرر، للمستفيد من أحكام هذا
القانون، سواء كان أجيرا أو يعمل بأية صفة تبعية كانت وفي أي محل كان إما لحساب
مشغل واحد أو عدة مشغلين، وذلك بمناسبة أو بسبب الشغل أو عند القيام به، ولو كانت
هذه الحادثة ناتجة عن قوة قاهرة أو كانت ظروف الشغل قد تسببت في مفعول هذه القوة
أو زادت في خطورتها إلا إذا أثبت المشغل أو مؤمنه طبقا للقواعد العامة للقانون أن
مرض المصاب كان سببا مباشرا في وقوع الحادثة.
ويقصد بالضرر في مفهوم هذا
القانون كل إصابة جسدية أو نفسية تسببت فيها حادثة الشغل وأسفرت عن عجز جزئي أو
كلي، مؤقت أو دائم، للمستفيد من أحكامه. »».
ومن هنا جاءت أهمية تحديد معيار
ثابت للعلاقة بين الحادثة والشغل من جهة وبين الحادثة والضرر من جهة أخرى، فبالنسبة للحالة الأولى استطاع القضاء الفرنسي
أن يبتدع معيار قرينة الإسناد لكن عدم كفاية هذه الأخيرة في بعض الحالات جعل
القضاء الفرنسي يبتدع قرينة أخرى وهي قرينة التبعية والتي جاءت لتدعم مضمون
القرينة الأولى.
بالنسبة
للحالة الثانية اهتدى القضاء المذكور وتبعه في نفس المسار القضاء المغربي إلى وضع
معيار لتحديد العلاقة بين الضرر والحادثة وهذا الأخير يتمثل في القرينة السببية،
وقبل الحديث عن هذه الأخيرة، لابد من التحقق المادي من الواقعة مصدر الإصابة، وذلك
باستعمال القرينة المادية.
الفقرة الأولى : العلاقة بين
الحادثة وظروف الشغل.
إن
إثبات عنصر الحادثة وعنصر الضرر لا يكفيان لوحدهما لاعتبار أن حادثة ما حادثة شغل،
بل لابد من إثبات كذلك العلاقة بين الحادثة وظروف الشغل أي الطبيعة المهنية
للحادثة، فعلى أي أساس إذن تتحدد هذه العلاقة؟
أ
: قرينة الإسناد
إذا كانت المادة الأولى من
القانون الفرنسي لسنة 1898، نصت على أن حادثة شغل هي كل واقعة تحدث بفعل أو
بمناسبة العمل، فإن القضاء الفرنسي من خلال محكمة النقض فسرت هذا النص على أنه لكي
تتحقق حادثة شغل فيجب أن تقع في مكان ووقت العمل
وعلى
المستوى الفقهي نجد نفس الشيء، ويبرر ذلك أن وقوع حادثة شغل في مكان ووقت العمل
يلزم المشغل بالتعويض لأنه لم يتخذ الإحتياطات اللازمة للحفاظ على سلامة وأمن
العمال في مكان العمل وأثناء تأديتهم لعملهم، لذا يبقى هذا التفسير منطقيا عند هذا
الفقه.[32]
ومن
هنا برزت أهمية المكان والزمان لتحديد ارتباط الواقعة مصدر الإصابة بالعمل، وكل
واقعة تحققت في وقت ومكان العمل تعد بمثابة حادثة شغل سواء كان الشغل هو السبب
المباشر فيها أو سببا غير مباشر، أو أنه لم يعرف له سبب، وعلى هذا فقرينة الإسناد
تعني كل إصابة تحققت في وقت ومكان العمل يجب اعتبارها كحادث يفترض نسبته إلى الشغل.
إذن الإرتباط بين الحادثة والشغل
على أساس الإفتراض وكما عبر عنه بعض الفقه، تصور ذهني للواقع بالنظر إلى المألوف
والراجح.[33]
من
تم أصبح عنصر الوقت والمكان عنصر الإستدلال على تحقق قرينة الإسناد والضحية هو
الذي يقع عليه عبء إثباتهما، ومن هنا جاءت ضرورة تحديد مفهوم كل عنصر على حدة.
لقد
اعتبر القضاء أن وقت العمل لا يقصد به فقط الزمن الذي تقتضيه تأدية العمل وإنما
كذلك الفترة التي تلي انتهاء ساعة العمل، وأثناء قيام الأجير بتسليم أدواته وفترة
قبل بدء العمل و الدقائق التي كان يتسلم فيها عمله كما جاء في إحدى قرارات محكمة
باريس التي اعتبرت بمثابة حادثة شغل وقعت على الساعة 19,30 وهو في قضاء حاجة بأمر
من صاحب العمل. »[34] »
ونفس الشيء فعل فيما يخص مكان
العمل فقد توسع في مفهومه ليشمل الأمكنة الملحقة والتابعة لجهات العمل و هو ما جاء
في إحدى
المواقف لمحكمة النقض: » أن
النهر الذي حدثت فيه الواقعة التي نتجت عنها الوفاة كان ملصقا لمكان العمل، بحيث
أمكن للعامل الوصول إليه لعدم وجود سياج يفصل بينه ومكان العمل أو على الأقل
تعليمات مكتوبة في أمكنة ظاهرة أو تحذر من الاقتراب من النهر»[35]
إذا كانت وقت ومكان
العمل يجب أن يفهم ككل مكان يقوم فيه العمل بأداء حاجيات الاستعمال وأداء وظيفته
أو إحدى وظائفه
ومكان
العمل لاعتبار حادثة ما بحادثة شغل، فالواقع يعطينا حالات قد يتخلف فيها عنصر من
العنصرين السالفين الذكر هذه الحالات يمكن تحديدها فيما يلي :
1)
الحادثة التي تقع في مكان العمل ولكن خارج أوقات العمل وهي الحالة التي تحدث فيها
الحادثة قبل بدء أو بعد انتهاء العمل والأجير يوجد تحت توجيهات المشغل، بعد منتصف
النهار حيث يقوم الأجير بأخذ وجبة الغذاء داخل المؤسسة عندما يتحول الى
. أماكن أخرى من المؤسسة كالسلم
الذي يؤدي إلى أماكن اللباس
كما نجد كذلك حوادث تقع أثناء وقت
العمل ولكن خارج مكان العمل كمثال على ذلك عندما يذهب الأجير إلى مقهى المؤسسة،
كما نجد كذلك حوادث تقع خارج مكان ووقت العمل وهذا النوع من الحوادث يطرح فيها
الإثبات صعوبة بالغة لأنه صعب تحديد ما إذا كانت الحادثة بمثابة حادثة شغل
للاستفادة من قرينة الإسناد، وضمن هذا النوع نجد حالة الأجراء الذين يعملون خارج
المؤسسة.
2) الحادثة التي وقعت أثناء وقت ومكان العمل يفترض أنها حادثة شغل
أي أن الأجير المصاب يستفيد من قرينة الإسناد إلى إسناد الحادثة إلى العمل كي
تكتسي صفة حادثة شغل لأن الأجير رغم ذلك يبقى ملزما بإثبات كونه يتواجد أثناء
إصابته بالحادثة في مكان ووقت العمل، وبالتالي
ففعالية القرينة كوسيلة إثبات تبقى رهينة بالإثبات الذي يقع على المصاب.[36]
لكن
معيار وقت ومكان العمل أصبح معيارا غير كافي، كونه جد ضيق لا يعطي كل الحالات التي
يصاب فيها الأجير بحادثة شغل وهذا ينعكس على نظام الإثبات إذ يجعله ضيقا ولا يحمي
المصاب في بعض الحالات، التي لم يتحقق فيها عنصر الوقت و المكان، من تم تبقى
قرينة الإسناد بمفهومها هذا
معيارا غير كافيا مما جعل القضاء يرتكز على قرينة أخرى هي قرينة التبعية.
ب: قرينة التبعية
قرينة التبعية أسلوب جديد اعتمده الاجتهاد القضائي بعد عجز قرينة الإسناد لوحدها
في تحقيق الحماية اللازمة للمضرور، وأقرها القضاء الفرنسي لمواجهة بعض الحالات
التي لا تتحقق فيها عناصر قرينة الإسناد من وقت ومكان العمل.
هكذا
ذهبت محكمة النقض في إحدى قراراتها: » أن المبعوث في مهمة له الحق في التمتع
بالحماية الاجتماعية أثناء الفترة الزمنية التي يستغرقها تنفيذ المهمة المكلف بها،
ويجب اعتباره قائما بتنفيذ مهمة ما لم يقم الدليل على أنه استرد كامل استقلاله»[37]
يتضح أن محكمة النقض استطاعت أن
توسع من مضمون قرينة الإسناد و هكذا فأهمية قرينة التبعية تتجلى في دعم المضمون
الموضوعي لقرينة الإسناد، وليس استغناء عن هذه
الأخيرة لأن الأجير الذي ينفذ أوامر المشغل في أداء مهمة خارج وقت ومكان العمل
يستفيد من قرينة الإسناد خلال الفترة الزمنية التي يستغرقها في أداء تلك المهمة ما
لم يثبت أنه كان أثناء تعرضه للإصابة أنه يقوم بعمل من أعماله الشخصية أو الطبيعية
والتي لا علاقة لها بالعمل من تم فقرينة التبعية تقوي مضمون قرينة الإسناد وتعطي
لهذه الأخيرة مفهوما واسعا.
لكن يجب التمييز بين مفهومين لقرينة
التبعية فهناك مفهوم تقليدي حيث تم افتراض أن الأجير خاضع لتوجيهات وإشراف المشغل
أثناء وقت ومكان العمل، هذا المفهوم يهدف إلى تيسير الإثبات ولكن إلى تقييد
الحماية الاجتماعية لأنها تسمح بإثبات العكس وبهذا المفهوم فإن حادثة شغل تكتسب
صفة المهنية عندما تتحقق في وقت ومكان العمل إضافة إلى وجود علاقة التبعية بين الأجير
و المشغل مما يعني أن قرينة التبعية تؤدي دورا مستقلا عن قرينة الإسناد، في تحديد
العلاقة بين الحادثة والعمل.
لكن المفهوم الحديث لقرينة
التبعية لا يعني ما سبق ذكره، وإنما يتم افتراض خضوع الأجير لسلطة المشغل و ليس
بالنظر الى تواجده
في مكان ووقت العمل وإنما إلى
قيامه بتنفيذ أوامره وتعليماته ولو كان ذلك خارج النطاق الزمني والمكاني للعمل،
وبذلك يهدف المفهوم الجديد إلى تيسير الإثبات من خلال دعمه لمضمون قرينة الإسناد
بشكل يؤدي إلى اتساع نطاقه لا إلى تقييدها لذا فقرينة التبعية بهذا المفهوم تؤدي
دورا غير مباشر لتحديد العلاقة بين الحادثة والعمل.
الفقرة
الثانية: العلاقة بين الإصابة والحادث
بموجب المادتين الثالثة و الرابعة
من القانون 12/18 فللإستفادة من التعويض عن حوادث شغل لا بد ربط العلاقة
بين الحادثة و الإصابة و القانون 12/18 بقي
قاصرا على وضع ضوابط محددة لإثبات هذه العلاقة لكن الإجتهاد القضائي الاجتماعي من خلال تكييفاته للوقائع، عمل على خلق قرائن
أصبح مستقر عليها في ظل عدم دقة التشريع.
لدراسة هذه الفقرة يستلزم منا
تقسيمها إلى نقطتين جوهريتين حيث نتناول في النقطة الأولى القرينة المادية بينما
نتناول في النقطة الثانية القرينة السببية.
أ: القرينة المادية
إذا
كان القضاء قد حاول أن يحدد الخصائص القانونية للوقاية التي تعد مصدرا للحادثة فإنه قد أعفى المؤمن عليه من عبء إقامة الدليل
على تحققها، إذ أن ظهور الإصابة في وقت ومكان العمل يؤدي إلى افتراض وجودها،
وكنتيجة بديهية لهذا فإعفاء الأجير من عبء الإثبات لا يقتصر على التحقق المادي
للحادث « القرينة المادية » بل يتجاوز هذا الإعفاء حتى إلى العلاقة
السببية بين الحادثة والضرر.[38]
.[39] وهذا ما
يحدو بجانب من الفقه الفرنسي أمام هذه النتيجة إلى القول بأن القرينة المادية، تضم
القرينة السببية وتستغرقها
فإذا
سلمنا القول بكون الأجير المتضرر معفى من إقامة الدليل على تحقق الحادثة استنادا
إلى القرينة المادية، بينما القول أن اقتران الإصابة بزمان ومكان الحادثة يعتبر في
ذاته حادثة شغل ، أو حادث يفترض نسبته إلى الشغل.
من هذا نستخلص أن الأمر يتعلق هنا
بقرار حقيقي، خاص بسبب الإصابة الثابتة، أو بمعنى آخر أنه يعطي لواقعة التحقق من
وجود الإصابة وظهورها في وقت ومكان العمل أهمية سببية مغالى فيها وخصوصا متى علمنا
أنها لا تأخذ بعين الاعتبار ببعض المعطيات المتمثلة في عناصر الواقع، هذه الأخيرة
التي لها قيمة استدلالية لا يستهان بها والتي يمكن أن تقوم عليها القرينة.
إن هذا المنحى الذي يسلكه الإجتهاد
القضائي الفرنسي في هذا الصدد، يبين عن القفزة التي خطاها والتي طرأت على المبادئ
التي يقيم عليها أحكامه، فقرينة السببية في صياغتها الأولية كانت تعتمد في إثبات
العلاقة ما بين الإصابة والحادث على عناصر ثابتة ومؤكدة تتصل بالتحقق المادي
للحادث،بحيث اعتبر أن » كل إصابة تلحق بالعامل إثر حادث، تحقق بسبب أو
بمناسبة العمل، يجب اعتباره مالم يثبت العكس أثرا لهذا الحادث. »[40]
فقرينة
السببية كانت تستند كما سبق أن رأينا على واقعة الاقتران الزمني والمكاني للحادث
والإصابة، وبالتالي فالاحتمال الراجح والمألوف في هذا الصدد، يؤدي بنا إلى افتراض
قيام علاقة ما بين ظهور الإصابة وتحقق الحادث، وهذا يفيد أن هناك التزام يلقى على الأجير
مفاده الكشف على الوجود المادي لواقعة لها خصائص الحادث حتى يكون هذا الاقتران
حقيقة مؤكدة، لكن أمام العراقيل والصعوبات التي تواجه الأجير في تحقيق مثل هذا
الالتزام، حدا بالقضاء الفرنسي إلى استنباط التحقق المادي للحادث انطلاقا من ظروف
الواقع التي يكشف عنها المضرور، بحيث أنه متى تبث انطلاقا من هذه الظروف أن
الحادثة محتملة الوقوع، فإن إثبات تحققها المادي يعتبر قد تم بحيث » كل
إصابة يعتبر العمل حتى المألوف سببا أو مناسبة لها يفترض ما لم يتم إثبات العكس
أنها ناتجة عن حادث عمل»[41]
ما يستخلص من هذا الحكم القضائي،
هو أن القضاء الفرنسي، ومن أجل التحقق من إثبات الحادثة يستعين في هذا المجال
بالقرينة المادية التي تؤدي إلى إعفاء الأجير
من إقامة الدليل على التحقق المادي للحادث، هذه الأخيرة تستند وكما رأينا إلى
الافتراض، والعناصر التي يقوم عليها هذا الافتراض يثبت الواقع العملي بأنها لا
تكون دائما حاسمة وقاطعة في دلالتها على حقيقة الواقع.
هذا
ما يبين إذن القصور الذي يعتري النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها القضاء باستعانته
بالقرينة المادية من أجل إثبات الحادثة، وبالتالي فأحكامه في هذا المجال لا تكون
مطلقة، بل نسبية، وذلك بالنظر إلى كون القرينة المادية تبنى لا على احتمالات راجحة
ويقينية بل على احتمالات مشكوك فيها يغلب عليها طابع الظن.[42]
ب:
القرينة السببية
إن الحماية التي يوفرها المشرع
المغربي للأجير المتضرر من جراء حادثة شغل كرسها القانون 12/18 هذا القانون وككل
التشريعات الخاصة بالتعويض تعطي أهمية بالغة لعنصر الضرر، وكما سبقت الإشارة إليه
لا يستفيد الأجير الذي تعرض للحادث ولم يصب بأي أذى من أي تعويض، ولكن هذا لا يبين
أن عنصر الضرر وحده يكفي للاستفادة من التعويض، بل لابد من ربط الضرر بحادثة شغل،
وبمعنى آخر ضرورة تحقق العلاقة السببية بين الحادثة والضرر، التي تصيب جسم الأجير
مباشرة على إثر الإصابة.
كما
أن هناك أيضا حالات معاكسة، يصعب بل ويستحيل من خلالها إثبات العلاقة السببية بين
الضرر والحادث والصعوبات في هذه الأحوال تختلف، ويمكن إيجازها فيما يلي:
* إما لعدم معرفة الظروف التي وقعت فيها الحادثة، والنموذج الذي يجسد
هذه الحالة كأن يسقط أحد البحارة من أعلى السفينة إلى البحر ليلا فيموت غرقا لا
يعرف ما إذا كان الأمر يتعلق بحادثة شغل أم بانتحار.
* إما لوجود أسباب متعددة من وراء الفعل الضار، والمثال الذي يجسد
هذه الحالة، كأن يكون الأجير عليل الجسم، أو من معطوبي الحرب مثلا ..
. * إما لعدم التناسب بين جسامة الضرر وهول الحادث
* إما لعدم ظهور الأضرار مباشرة بعد الحادثة، وخير مثال على هذه
الحالة هو خروج الأجير سالما عند حصول الحادثة، ثم يشتكي بعد مرور وقت من الزمن
على وقوعها، من وجود أضرار في جسمه.[43]
ولما
كان من المنطقي أن الحماية التي يوفرها قانون الشغل لابد وأن تكون لها حدود بحيث
يعرف المشغل ما له وما عليه، فالمنطق القانوني يفرضان تحمل المشغل مسؤوليته في
حدود نتائج الأضرار التي تلحق بأجرائه، من جراء الحوادث التي لها علاقة بالشغل،
دون باقي الأضرار الأخرى، والتي لها أسباب لا علاقة لها بالحادثة.
فالرغبة في تحديد المسؤولية هو
الذي حدا بالقضاء الفرنسي، وتبعه في ذلك القضاء المغربي، إلى وضع معيار يهتدي إليه
لتحديد هذه العلاقة السببية بكل يسر وسهولة، وفي هذا الإطار نجد المحاكم المغربية
و الفرنسية تميز بين نوعين من الضرر، ضرر
مباشر والذي ينتج عن الحادثة مباشرة، وفي المقابل ضرر غير مباشر بمعنى أنه لا
يرتبط بالحادثة مباشرة.
1 ـ الضرر بالمباشر: إن هذه الحالة والتي لا تثير أي إشكال
فيما يخص الإثبات والمتعلقة بحصول ضرر للأجير مباشرة، وفور وقوع الحادثة، بحيث
هناك تلازم ما بين وقت الحادثة وحصول الضرر، فإن المحاكم في هذه الحالة تهتدي إلى
قرينة الإسناد والتي بواسطتها
الضرر أو يسند الى حادثة شغل. يعزى
والتساؤل المطروح في هذا المجال
هو هل من اللازم إثبات العلاقة السببية طبقا للقاعدة القائلة بها البينة على المدعي،
أو يكتفي بوقوع الحادثة فقط من أجل استنباط العلاقة السببية؟
فالمنحى
الذي سار فيه الإجتهاد القضائي المغربي منذ صدور ظهير 25 يونيو 1927 هو منحى الإجتهاد
القضائي الفرنسي، بحيث يأخذ بقرينة السببية، مستعملا نفس العبارات التي كانت
توردها محكمة النقض الفرنسية مرارا في قراراتها: » أن كل ضرر يحصل من جراء
الحادثة تقع بسبب الشغل أو بمناسبة القيام به، يجب اعتباره ناتجا عن حادثة شغل إلا
إذا أقيم الدليل على عكس ذلك»[44]
ومن الملاحظ أن الإجتهاد القضائي
المغربي مازال يأخذ بهذه القرينة، كما تدل على ذلك القرارات الصادرة عن محكمة
النقض بهذا الخصوص، هذه القرارات التي تجد سندها في المنحى الذي نحاه المشرع
المغربي بالقانون 12/18 خصوصا مقتضيات المادة
3 منه.
وذلك بتحميله المسؤولية عن كل ضرر لحق الأجير من
جراء حادثة نتجت عن الشغل بحيث يفترض مع كل ضرر لحق الأجير أنه يرجع مباشرة
للحادثة وهذا ما يعبر عنه بقرينة الإسناد هذه الأخيرة لا تعتبر قاطعة، بمعنى آخر
لكي يتنصل المشغل من المسؤولية عليه أن يقيم الدليل على عكس ذلك، وذلك كان يثبت
بأن الضرر الذي يعتقد أنه موال لوقوع الحادثة هو سابق لوقعها ، وفي هذا الصدد قضىت
محكمة النقض : » بان وفاة الأجير التي تحصل بسبب سكتة قلبية أثناء الشغل يفترض
أنها ناتجة عن حادثة شغل و لهدم هذه
« القرينة فإنه يجب على المؤاجر أو على مؤمنه،
أن يثبت مرضا سابقا للمصاب، وأن يقيم الدليل على أن الأزمة القلبية لم يتسبب فيها
الشغل »[45]
كما قضىت نفس المحكمة : »بأن
التكثف في عدسة العين الذي يظهر بعد ساعات على إصابتها من جراء انكسار حجرة، يعتبر
ناتجا عن حادثة شغل بالرغم من أن الخبرة الطبية لم تستطع تأكيد أصل هذه الإصابة،
وعلى المؤاجر أو مؤمنه أن يقيم الدليل على أن هذا التكثف مترتب عن سبب أجنبي عن
الحادثة. »[46]
و من خلال هذين القرارين نخلص إلى
التأكيد على أن الإجتهاد القضائي المغربي استطاع تطوير نظام إثبات حوادث الشغل عبر
اجتهاداته ، بحيث ما يزال ثابتا في موقفه والذي يتمثل في كونه يعفي الأجير، كطرف
ضعيف في العلاقة التعاقدية من عبء إثبات العلاقة السببية بين حادثة شغل والضرر ،
ولكن هذا التوجه ليس على إطلاقه بحيث أعطى في نفس الوقت للمشغل عبء إقامة الدليل
العكسي لكي يتنصل من مسؤوليته، ويعتبر هذا الموقف منطقيا متى علمنا أنه قد تكون
هناك استعدادات الأجير المرضية أو الأمراض السابقة لوقوع الحادثة التي تعتبر من
بين الوسائل، التي يستطيع المشغل التمسك بها للوصول إلى هذا الإثبات، فلا يعقل أن
يتحمل المشغل المسؤولية عن هذه الأسباب الخارجة عن حادث الشغل.
وقد
سبق للقضاء المغربي أن عرض عليه هذا النوع من القضايا، وكان موقفه في هذا الصدد
جريئا، ويتمثل في كون المشغل يتحلل من المسؤولية كلما أثبت الاستعداد المرضي عند
الأجير، وأن الحادثة لم تكن السبب الذي يسمح باندلاع هذا الضرر.
وعلى
هذا المنوال قضت محكمة استئناف الرباط في حكمها الصادر بتاريخ 17 أبريل 1954 على »
أنه تعتبر ناتجة عن حادثة شغل وفاة الأجير المصاب بداء السل والتي حدثت إثنا عشر
يوما بعد إصابة هذا الأخير في ظهره، على إثر حادثة شغل وأنه كان على المؤاجر أن
يثبت في الوقت المناسب أن وفاة هذا الأجير كانت ستحصل ولو لم يصب في حادثة شغل. »[47]
كما قضت محكمة النقض الفرنسية
بتاريخ 11 فبراير 1955 نقض حكم محكمة الإستئناف بالرباط الصادر في 23 ماي 1953 لأن
هذه المحكمة الأخيرة لم تمنح أرملة الأجير الذي أصيب في رأسه في ساحة المؤسسة وهو
يؤدي أجور العمال، إيرادا بدعوى أن وفاة زوجها نجمت عن نزيف داخلي في المخ تطور
خفية على إثر إصابة سابقة في مباراة من مباريات الكرة المستطيلة، وقد صرحت محكمة
النقض في تعليلها لنقضها أنه: » مادامت حادثة شغل المتمثلة في ارتطام رأس
المصاب بوجه الأجير الآخر قد كشفت عندما اختفى إلى حد وقوعها وأنها هي التي عجلت
بتطوره، تطورا قضى على المصاب فإنه يجب اعتبار هذه الوفاة ناتجة عن حادثة شغل.»[48]
وسيرا
في هذا الإتجاه الذي كرسته محكمة النقض الفرنسية نجد محكمة الإستئناف بالرباط في
حكمها الصادر 12 مارس 1960 تعتبر: » أن وفاة الأجير المصاب بداء السكري التي
تحدث بضعة أيام على إثر إصابته بحادثة شغل في رأسه تكون ناتجة عن هذه الحادثة نظرا
لضعف أوعية الجمجمة بسبب هذا المرض الذي سبب نزيفا دمويا داخليا. »[49]
وقد اتجهت محكمة النقض على غرار
المحاكم الأدنى درجة، وما يوضح ذلك هو كونه قضى برفض نقض حكم محكمة الاستئناف
بالرباط في قراره في 30 دجنبر 1965 لكون المحكمة المذكورة قضت» بكون إصابة عظام
الرجل تكون ناتجة عن حادثة شغل حتى ولو كان هناك داء ناتج عن إصابة سابقة، وبرزت
حكمها بكون الحادثة هي التي كشفت عن هذا أداء الذي اختفى إلى حد وقوعها. »[50]
وإذا
أردنا تقييم مسلك الإجتهاد القضائي في هذا الصدد وجدناه ينبني على أساس مقبول ومنطقي
مفاده أن الأجير يستفيد من مقتضيات قانون حوادث الشغل و الأمراض المهنية متى نتج
الضرر عن حادثة شغل، ولو تداخلت معه أسباب أخرى بحيث أن جميع الأسباب على درجة
واحدة من الأهمية، تطبيقا لنظرية تكافؤ الأسباب، وهذه النظرية تعتبر وجيهة بحيث
أنها تعتبر آخر هذه الأسباب وهي وقوع الحادثة، لما ظهرت الأسباب الأخرى الخفية،
باعتبارها آخر هذه الأسباب، وبإمكان المشغل التنصل من مسؤوليته متى أثبت أن الضرر
يجد أساسه في سبب آخر غير الحادثة .
2 ـ الضرر غير المباشر
إذا كان الأجير المتضرر من جراء
حادثة شغل يستفيد من قرينة الإسناد متى اقترن ظهور الضرر بتحقيق حادثة شغل،
وبالتالي يعفى من عبء الإثبات، فإن هناك حالة معاكسة لا يظهر فيها الضرر مباشرة
بعد وقوع الحادثة بل يختفي ولا يظهر إلا بعد فترة زمنية، ففي هذه الحالة والتي
تثير إشكالا على مستوى الإثبات، فالأجير لا يستفيد من قرينة الإسناد، وهذا أمر
بديهي متى علمنا أنه إذا كان من الممكن إرجاع سبب الضرر إلى الحادثة فمن غير
المستبعد، بعد مرور فترة زمنية أن ينتج عن أسباب أخرى لاحقة لوقوعها.
وبالتالي يتعذر اللجوء إلى استعمال قرينة
الإسناد متى كان الضرر غير مباشر، لذلك يتحمل الأجير المتضرر أو ذوي حقوقه في حالة
وفاته إثبات العلاقة بين الحادثة والضرر، وبحكم مركز الأجير كطرف ضعيف في العلاقة
التعاقدية فقد أعطى المشرع اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات الدامغة، كالشهادة
الطبية والخبرة المضادة، كذا تشريح الجثة في حالة وفاته.
في هذا الصدد قررت محكمة الإستئناف
بالرباط في حكمها الصادر في 18 أبريل 1953: » أنه لا يمكن تطبيق مقتضيات
التشريع المغربي الخاص بالتعويض عن حوادث الشغل إذا لم تتمكن أرملة الأجير المصاب
بحادثة شغل الذي توفي بعد أشهر عديدة من برء جرحه أن تقيم الدليل على وجود علاقة
سببية بين الحادثة والوفاة »[51]
كما قررت نفس المحكمة بتاريخ 7 فبراير 1953: » أنه إذا توفي المصاب بعجز يقدر
ب 8% بعد أربعة عشر شهرا من وقوع حادثة شغل، وقامت أرملته تطالب بالإيراد عن
الوفاة، مدعمة طلبها بشهادة لفيفية وضعت بعد مرور عشرة أشهر عن الوفاة فإن تصريحات
الشهود الواردة في الشهادة اللفيفية تشكل مجرد آراء شخصية غير دامغة، لأنها لم
تصدر عن أهل الفن والخبرة ولا تشكل بالتالي دليلا قاطعا عن العلاقة السببية بين
الحادثة والوفاة»[52]
وموقف
المشرع المغربي والذي تجسده هذه القرارات يعتبر منطقيا ومعقولا بل بحيث لا يعقل
إعمال قرينة الإسناد، كلما كان الضرر غير مباشر وذلك راجع بالخصوص إلى كون ظهور
الضرر بعد وقوع الحادثة لفترة زمنية طالت أم قصرت، لا يمكن معه التسليم بكون الضرر
ناتج عن الحادثة والسبب في ذلك راجع إلى أنه من المحتمل أن تتدخل أسباب أخرى بعد
الحادثة تتسبب في الضرر، وعليه فمن الواعي ومن العدل أن يلتزم الأجير أو ذوي حقوقه
في حالة وفاته بإقامة الدليل على كون الضرر يرتبط بالحادثة، بعلاقة وطيدة ومتماسكة.
وهذا
ما حدا بجانب من الفقه الفرنسي إلى القول[53]
بأنه لفسخ العلاقة السببية بين الضرر والحادثة يكفي أن يدخل العلاقة سببا أجنبيا،
وبالتالي فعلى الأجير من أجل الإستفادة من التعويض أن يثبت بالإضافة إلى علاقة
الضرر بالحادثة، أيضا كون الضرر لم يحصل لهذا السبب الأجنبي ، وانطلاقا من هذا
المبدأ نجد الإجتهاد القضائي يقضي كلما نتجت وفاة المصاب بحادثة شغل في وقت العلاج
الذي استلزمه هذه الحادثة، بحيث يضع اعتبار المشغل مسؤولا عن الوفاة، كذلك نظرا
لكونها تشكل مع الحادثة وحدة غير قابلة للتجزئة فإن المشغل لا يكون مسؤولا عن
تفاقم جرح المصاب بسبب رفضه للعلاج، أو عن الوفاة التي تحدث بسبب أجنبي عن الحادثة.
فهكذا نقضت محكمة النقض الفرنسية
في قرارها الصادر عن غرفتها المدنية بتاريخ 16 فبراير 1956 حكم محكمة استئناف
بتاريخ 21 شتنبر 1954 لأن هذه الأخيرة لم تعتد برفض الأجير لتلقي العلاج بالرغم،
بساطة الإصابة، وقد صرحت محكمة النقض: » أن الأجير الذي جرح في أصبعه ورفض
استئصال الداحوس الناتج عن الجرح بواسطة عملية خفيفة بعد تنبه مؤاجره و الطبيب على
المضاعفات التي قد
لذلك
قررت محكمة النقض عدم تحميل المشغل بالعواقب الناتجة عن قطع الأصبع مادامت أسباب
أخرى منها رفض المصاب للعلاج وتسرب المكروبات إلى الجرح قد ساهمت في حصول الضرر،
وقياما على هذه الحالة نجد محكمة النقض المذكورة في قرارها الصادر عن غرفتها الإجتماعية
بتاريخ 25 غشت 1952 ترفض الأخذ بقرينة إسناد الضرر للحادثة التي يجرح فيها الأجير
يوم 23 غشت ويموت متأثرا بالتيطانوس يوم 6 أكتوبر مع أنه لم يوقف شغله ولم يطالب
بأي علاج، كما قررت محكمة الإستئناف بالرباط في
قرارها الصادر بتاريخ 18 أكتوبر 1952 أنه:
» إذا انتحر الأجير المصاب بعجز دائم جزئي ناتج عن حادثة شغل فإنه
لا توجد في هذه الحالة قرينة إسناد الضرر للحادثة وعلى ذوي حقوقه أن يقيموا الدليل
على وجود علاقة سببية بين الحادثة والإنتحار» [55]
لذلك يتمظهر من خلال مختلف الإجتهادات
القضائية للقضاء الإجتماعي في فرنسا و المغرب
تطوير نظام الإثبات في قضايا حوادث الشغل من طرف الإجتهادات القضائية ،
بحيث أصبح القضاء مستقر عليها في ظل القصور التشريعي و صعوبة سن وسائل إثبات دقيقة
لإثبات حوادث الشغل و الأمراض المهنية .
الملاحظ أن الإجتهاد القضائي غطى
على القصور التشريعي و عدم دقة وسائل الإثبات العامة و عدم قدرتها على مواكبة تطور
الوقائع بحيث هذا القصور خول للقضاء الحق الضمني لإصدار اجتهادات قضائية نابعة من
الواقع وحسب النوازل المعروضة أمامه ، طور من خلالها نظام إثبات حوادث الشغل و الأمراض
المهنية .
لذلك أصبح القضاء الاجتماعي يذهب
في اتجاه القضاء الأنكلوساكسوني يستند على الفلسفة الواقعية لإصدار قرارات قضائية استطاع من خلالها خلق وسائل أصبح مستقر عليها تتجه في
مصلحة الأجير بالدرجة الأولى، وأصبح الإجتهاد القضائي من خلالها آلية لتطوير نظام إثبات حوادث الشغل و الأمراض
المهنية نظرا لخصوصيته و صعوبة الإستناد على القواعد العامة مخافة ضياع حقوق الأجراء.
لكن يبقى التساؤل المطروح هل تطوير الإجتهاد
القضائي لنظام إثبات حوادث الشغل و الأمراض المهنية يمكن من خلاله تطوير التشريع
عبر سن ما استقر عليه الإجتهاد القضائي أم أنه
لصعوبة هذا الطرح يكفي الاستقرار على الإجتهادات القضائية من طرف القضاء الاجتماعي دون سنها في تشريع حوادث
الشغل و الأمراض المهنية .
خاتمة:
ما يمكن أن نخلص إليه، أن نظام
الإثبات في إطار حوادث الشغل، تم تطويره عبر الإجتهاد القضائي و هنا يمكن لنا القول أن الإجتهاد القضائي هو
بالفعل مصدر رسمي من مصادر القانون و آلية واقعية لتطوير الترسانة التشريعية
فاستطاع الإجتهاد القضائي الاجتماعي بواقعيته
ابتكار أسلوب جديد في الإثبات وهو
قرينة الإسناد و قرينة التبعية و القرينة المادية و السببية بالإضافة الى الأخد
بمعيار الضرر المباشر و الغير المباشر، هذه الوسائل المبتكرة ساهمت في تطوير نظام
إثبات حوادث الشغل و الأمراض المهنية ونجحت إلى حد ما في قلب عبء الإثبات، وجعلته
رهين بهذه الوسائل، فرغم ما يؤخذ على أن
قرينة الإسناد تبقى بسيطة قابلة لإثبات العكس، لأنها تفتح الباب أمام المشغل أو
مؤمنه للتنصل من مسؤوليتهما إذا ما أثبتوا أن الحادثة راجعة إلى سبب خارجي تماما
عن العمل، لكن عند عجز قرينة الإسناد في تحقيق حماية أكثر للأجير، ابتدع الاجتهاد القضائي مرة أخرى قرينة التبعية والتي بواسطتها يتم افتراض خضوع الأجير
ليس بالنظر إلى تواجده في مكان ووقت العمل، وإنما إلى قيامه بتنفيذ أوامره،
وتعليماته ولو كان ذلك خارج النطاق الزمني والمكاني للعمل، وبذلك تهدف إلى تيسير
الإثبات من خلال دعهما لمضمون قرينة الإسناد، بشكل يؤدي إلى اتساع نطاقها لا إلى
تقييدها، ومن جهة أخرى تم تدعيم نظام الإثبات في حوادث الشغل بأسلوب آخر وهو
القرينة المادية، والتي تعفي الأجير من إقامة الدليل على التحقق المادي للحادث.
وبالرغم من تطوير نظام الإثبات في حوادث الشغل عبر
الاجتهاد القضائي ، فإنه غالبا ما يصطدم بصعوبة تحقيق الحماية اللازمة للمضرور،
ذلك أن المشغلين يقبلون على مؤسسات التأمين للتأمين على حوادث الشغل حتى يتجنبوا
المبالغ الباهظة والتي قد لا تتحملها ميزانية مؤسساتهم، فإن شركات التأمين هذه
تستغل هذا الميدان، ليس لتحقيق الحماية الاجتماعية للأجير، والتي دأب الفقه
والقضاء و الحركة النقابية إلى تحقيقها
منذ قرون، و إنما لتحقيق الربح على حساب بؤس المصابين وحرمانهم من أبسط الحقوق.
ذلك أن هذه المؤسسات تعمل على
مماطلة المصاب للحصول على الإيراد، برفضها لنتائج الخبرة الطبية، ونسبة العجز الذي
قدرها الطبيب المعالج ومطالبتها بخبرة مضادة.
"يعدل القاضي العادل بحكمه
ما كان جائرا في القانون"
جوستاف لوبون
قرار صادر عن محكمة
النقض الفرنسية بتاريخ 17 أبريل 1921، سبق أن أشار إليه آمال جلال في المرجع
السابق ذكره، ص: 219 [44]
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات المدونة
زووم العربية نشكرك للمتابعة . يمكنك نقل
الموضوع من المدونة لكن بشرط يجب ذكر المصدر و ذكر رابط الموضوع الاصلي قبل نقل أي موضوعالمرجوا زيارة صفحة
الخصوصية
نسخ الرابط | |
نسخ للمواقع |
0 التعليقات:
إرسال تعليق