المحاكمة عن بعد على ضوء المرسوم عــــ12ـــدد لسنة 2020 المؤرخ في 27 أفريل 2020
المحاكمة عن بعد على ضوء المرسوم
عــــ12ـــدد لسنة 2020
المؤرخ في 27 أفريل 2020
فاروق الهاني
قاض بالمحكمة الابتدائية سوسة 2/تونس
[1] قاعدة قانونية لاتينية تعني أن القانون الذي لا يتطور
يموت (MUTATA LEX NON PERIT) فالقانون ينظم حياة البشر
والعلاقات التي تنشأ بينهم والتي تتطور بمرور الزمن، لذلك كان على القانون أن
يواكب ذلك التطور وإلا أصبح غير متلائم مع وظيفته ومبررات وجوده.
وقد
ظهرت صيغ جديدة من المعاملات أحدثت تشعبا في الوضعيات القانونية، والقضاء كغيره من
المجالات [2]
لا بد أن يواكب التطورات والمستجدات المتقدمة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية
ويتفاعل معها بإيجابية مما ساهم في تكريس آلية المحاكمة عن بعد باستعمال تقنية
المحادثة المرئية ومدلولها الاصطلاحي يتمثل في كونها وسيلة تكنولوجية من وسائل الاتصال
والمحادثة المرئية والمسموعة يستخدمها مجموعة من الأفراد فيما بينهم[3].
لذلك
سعت عدة دول إلى إدخال تلك الآلية ضمن منظومتها الجزائية، إما توقا منها لتطوير
مرفق العدالة كالمشرع الإماراتي[4]
والجزائري[5]
والفرنسي[6] أو للتعامل مع حالات استثنائية كالمشرع
الإيطالي الذي كرس تلك الآلية في إطار حماية المتداخلين في المشهد القضائي من سطوة
المافيا الإيطالية[7]
ودمويتها التي لم تستثن أحدا.
وأسوة
بتلك التشاريع حاول المشرع التونسي إدماج آلية المحاكمة عن بعد صلب منظومة
المحاكمة الجزائية وذلك بغرض حمائي استباقي في مرحلة أولى وجاء ذلك فقط في نصوص
خاصة وهي الفصل 49 من القانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10 ديسمبر 2003 المتعلق
بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والذي مكن قاضي التحقيق
ورئيس المحكمة في حالات الخطر الملم أن يقررا استنطاق المتهم وتلقي تصريحات من
يريان فائدة في سماعه باستعمال وسائل الاتصال المرئية أو المسموعة الملائمة دون
ضرورة لحضور المعني بالأمر شخصيا.
كما
حافظ على إمكانية اللجوء إليها صلب الفصل 73 من القانون الأساسي عدد 26 لنة 2015
المؤرخ في 07/08/2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وواصل تكريسها
لنفس الغرض المذكور سالفا في الفقرة الثانية من الفصل 51 من القانون الأساسي عدد
61 لسنة 2016 المؤرخ في 03 أوت 2016 المتعلق بمنع الإتجار بالأشخاص ومكافحته.
وعملا
بالقاعدة القانونية اللاتينية بأن الضرورة تخلق قانون اللحظة[8]
فمنذ إعلان منظمة الصحة العالمية بتاريخ 11 مارس 2020 أن فيروس كورونا المستجد
(كوفيد -19) المتفشي حول العالم وباءا عالميا سارعت الدولة التونسية لإيجاد حلول
عملية في إطار القانون لمجابهة ذلك الوباء، ففوض مجلس نواب الشعب لرئيس الحكومة
إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشاره بموجب القانون عدد 19 لسنة 2020 المؤرخ
في 12 أفريل 2020.
وعملا
بذلك التفويض صدر بتاريخ 27 أفريل 2020 مرسوم تحت عدد 12 لسنة 2020 تعلق بإتمام
مجلة الإجراءات الجزائية الذي منح السلطة القضائية إمكانية استعمال وسائل الاتصال
السمعي البصري في المحاكمة الجزائية.
لذلك
سوف نحاول بيان إلى أي مدى توفق المرسوم عدد 12 لسنة 2020 في تنظيم المحاكمة عن
بعد؟
للجواب
على تلك الإشكالية سوف يتم عبر تناول جزأين اثنين نطاق آلية المحاكمة عن بعد
(الجزء الأول) وحدودها (الجزء الثاني).
ككل
آلية قانونية فإن النص الذي ينظمه يضبط حالات أو صور اللجوء إليه (الفقرة
الأولى) والإجراءات المتبعة في ذلك (الفقرة الثانية).
الفقرة
الأولى: حالات اللجوء إلى آلية المحاكمة عن بعد:
إختار
المشرع في الفصل 141 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية الوارد بالمرسوم عدد 2 لسنة
2020 أن يكون اللجوء إلى آلية المحاكمة عن بعد في حالتين واحدة عادية أخرى استثنائية.
فالبنسبة
للحالة الأولى أي العادية فهي التي منح فيها المشرع صلب الفقرة الأولى من الفصل
المذكور أعلاه الإمكانية للمحكمة أن تقرر من تلقاء نفسها أو بطلب من النيابة
العمومية أو المتهم المودع بالسجن حضور
هذا الأخير جلسات المحاكمة والتصريح بالحكم الصادر في شأنه عبر استعمال وسائل الاتصال
السمعي البصري في ربط بين قاعة الجلسة المنتصبة بها الهيئة الحكمية والمؤسسة
السجنية المودع بها المتهم.
أما
بالنسبة للحالة الثانية التي يتم فيها اللجوء لآلية المحاكمة عن بعد فيتم ذلك في
صورتين استثنائيتين الأولى في صورة وجود خطر ملم والثانية بغاية التوقي من إحدى
الأمراض السارية.
ولئن
عرف المشرع المرض الساري صلب الفصل الثاني من القانون عدد 71 لسنة 1992 المؤرخ في
27 جويلية 1992 والمتعلق بالأمراض السارية وضبط شروط اعتبارها كذلك، فإنه لم يعرف
حالة الخطر الملم وحتى بالرجوع إلى نصوص قانونية مدنية وجزائية سواء موضوعية
وإجرائية وردت بها تلك العبارة كالفصل 135 من مجلة الالتزامات والعقود والفصلين 19
و 214 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية والفصل 97 من مجلة الإجراءات الجزائية
والفصل 73 من القانون الأساسي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والفقرة الثانية
من الفصل 51 من القانون الأساسي المتعلق بمنع الإتجار بالأشخاص ومكافحته فإننا لا
نجد تعريفا أو تحديدا لحالات الخطر الملم إلا في الفقرة الثانية من الفصل 46 من
مجلة حماية الطفل والذي اعتبره كل عمل إيجابي أو سلبي يهدد الحياة أو السلامة
البدنية أو المعنوية بشكل لا يمكن تلافيه بمرور الوقت.
بعرضنا
لحالتي اللجوء لآلية المحاكمة عن بعد يمكن أن نستشف أن الغاية من استعمالها في
الحالة الأولى بمثابة إعلان صحوة من المشرع التونسي للحاق بركب التشاريع التي كرست
تلك الآلية نظرا لكونها أصبحت ضرورة ملحة وليست خيارا استراتيجيا الغاية منه تطوير
مرفق العدالة وتمكين كل المتداخلين في المشهد القضائي من مسايرة الدعاوى وفصلها
دون ضرورة لتواجدهم المادي الجسدي بقصور العدالة، وهو ما من شأنه أن يساهم في
تخفيف العبء على المحاكم وسرعة الفصل في النزاعات والقضايا وتقريب القضاء من
المواطن.
أما
الغاية من استعمال آلية المحاكمة عن بعد في الحالة الثانية فإن ذلك يأتي في إطار
حمائي يتناسق ولو نسبيا مع الظرف الحالي
الذي تمر به البلاد في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد الذي أعتبر بصدور الأمر
الحكومي عدد 152 لسنة 2020 المؤرخ في 13 مارس 2020 من الأمراض السارية.
كما
يلاحظ أن استعمال الوسائل السمعية البصرية سواء في الحالة العادية أو الاستثنائية
يشمل فقط مرحلة المحاكمة على خلاف عدة تشاريع كالمشرع الفرنسي التي شملت في الفصل
706/71 من مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية في مرحلة أولى التحقيق والمحاكمة وفي
مرحلة ثانية بموجب القانون عدد 1636 لسنة 2016 توسع في الجهات المخول لها استعمال
تلك الوسائل لتشمل وكلاء الجمهورية، كما امتدت على المستوى الجغرافي لتعطي
الإمكانية للجهات القضائية في سماع شاهد أو خبير أو استنطاق متهم إذا كان متواجدا
بدولة من الدول الأعضاء التابعة للاتحاد الأوروبي وذلك في إطار التحقيقات
الأوروبية المشتركة والتزاما بالاتفاقية الأوروبية الجديدة للمساعدة القضائية في
المسائل الجزائية[9]
المقررة من طرف مجلس أوروبا بتاريخ 30 نوفمبر 2000[10].
الفقرة
الثانية: إجراءات المحاكمة عن بعد:
قبل
عرض إجراءات المحاكمة عن بعد فإنه يتوجب الإشارة أن تلك الإجراءات شملت فقط المتهم
المودع بالسجن دون غيره من بقية أطراف التتبع الجزائي من متهمين محالين بحالة سراح
أو شهود أو خبراء أو متضررين أو قائمين بالحق الشخصي، وهو تحديد قد يكون المشرع
أراد من خلاله أن يتسق مع واقع قطاع العدالة في تونس الذي يفتقد في كثير من
الأحيان لأبسط الحاجيات الأساسية والضرورية للعمل القضائي، ويمكن أن يرجع الأمر
إلى اختياره سياسة التدرج في تعميم إجراءات المحاكمة عن بعد على جميع الأطراف.
ويلعب
المتهم المودع بالسجن دورا محوريا في هذا الإجراء المستحدث في الحالة العادية والاختيارية
المذكورة سالفا، إذ أن موافقته على استعمال تلك الآلية يعد شرطا أساسيا إذا ما
قررت المحكمة اللجوء إليها من تلقاء نفسها أو بناء على طلب النيابة العمومية، كما
أنه يتمتع بحق طلب تفعيل ذلك الإجراء، ويأتي ذلك في إطار تدعيم حقوق المتهم.
لكن
تلك الموافقة في صورة قررت المحكمة اللجوء إلى إجراء المحاكمة عن بعد في الحالات الاستثنائية
تم تجاوزه حسبما جاء بالفقرة الثانية من الفصل 141 مكرر من مجلة الإجراءات
الجزائية، وهو أمر بديهي بالنظر للغاية الحمائية من الاستثناء في تفعيل المحاكمة
عن بعد.
ورغم
اختلاف الحالتين العادية والاستثنائية للمحاكمة عن بعد حول شرط موافقة المتهم، إلا
أنهما اشتركتا في شكل القرار فقد جاء بالفقرة الثالثة من الفصل 141 مكرر أن القرار
الصادر عن المحكمة بإستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري يكون كتابيا ومعللا،
فمثلا يمكن تعليل اللجوء إليها في حالة
الخطر الملم بوجود إمكانية لتهريب أحد المتهمين خلال نقله من سجن إيقافه إلى
المحكمة ،وهو ما من شأنه أن يشكل خطرا على سلامة أعوان السجون والإصلاح المكلفين
بنقله بصفة خاصة وعلى الأمن العام بصفة عامة.
ثم
يتواصل الاشتراك في إجراء الإعلام بذلك القرار الذي يوجه إلى مدير السجن المودع به
المتهم وإلى محاميه عند الاقتضاء، وذلك بكل وسيلة تترك أثرا كتابيا، وهو ما يترتب
عنه قيام الخيار بالنسبة للسان الدفاع إما أن يختار النضال عن منوبه من قاعة
الجلسة المنتصبة بها المحكمة أو بالفضاء السجني الحاضر به منوبه، وفي هذه الحالة
فإن المشرع أتى بإجراء جديد فيه استثناء للمبادئ العامة للمحاكمة الجزائية القائم
على شفوية المرافعة وحينية الإجراءات، إذ أوجب على نائب المتهم تضمين مرافعته في
تقرير كتابي يوجه إلى المحكمة صحبة ما لديه من مؤيدات قبل يوم واحد على الأقل من تاريخ الجلسة.
أما
إجراءات سير وتسيير الجلسة فقد اعتبرها المرسوم عدد 12 على الرغم من كونه وسع اعتباريا في قاعة الجلسة
بتنصيصه أن الفضاء السجني المخصص للغرض هو امتداد لقاعة الجلسة فقد بقيت خاضعة
لنفس الإجراءات المنظمة للمحاكمة التقليدية، وبالتالي فإن الفصول المنظمة للجرائم
المجلسية الواردة بالفصول 126 و 127 و 315 ثالثا من المجلة الجزائية والفصل 295 من
مجلة الإجراءات الجزائية تنطبق في حالة المحاكمة عن بعد.
ونظرا
لخصوصية سير جلسات المحاكمة عن بعد فقد قرأ المرسوم حسابا لأي خلل تقني أو فني
يمكن أن يطرأ على الوسائل السمعية والبصرية من شأنه أن يعطل السير العادي لتلك
الجلسات، إذ أعطى الإمكانية لرئيس الجلسة في صورة حصول خلل فني أو انقطاع الربط
والإرسال السمعي البصري تعليق الجلسة لمدة ساعتين أو تأجيلها لموعد لاحق بعد أخذ
رأي النيابة العمومية.
لكن
على قول الشاعر أبو البقاء الرندي لكل شيء إذا ما تم نقصان فرغم محاولة المرسوم
إدماج آلية المحاكمة عن بعد صلب مجلة الإجراءات الجزائية إلا أنه حمل بعض النقائص
والهنات.
الجزء
الثاني: حدود آلية المحاكمة عن بعد:
رغم
أن الأرضية التي سيطبق عليها المرسوم تشكو من عديد النقائص مما قد يعيق نجاح
المحاكمة عن بعد في تونس (فقرة ثانية ) إلا أن ذلك لا يحجب الرؤيا عن
الحدود القانونية (فقرة أولى) التي جاءت بالمرسوم عدد 12 لسنة 2020.
الفقرة
الأولى: الحدود القانونية:
قبل
الخوض في بيان الحدود القانونية الواردة بالفصل اليتيم للمرسوم متعدد الفقرات فإنه
لا بد من التعريج على مسألة جوهرية تتعلق بمدى دستورية ذلك المرسوم، إذ من المعلوم
أنه جاء بموجب تفويض منحه أعضاء مجلس نواب الشعب لرئيس الحكومة طبق أحكام الفقرة
الثانية من الفصل 70 من الدستور، ويعتبر التفويض إجراءً استثنائيا يتنازل بموجبه
المشرع الأصلي عن دوره الأساسي لفائدة السلطة التنفيذية، لكن التفويض لا يكون إلا
لغرض معين فجاء القانون عدد 19 لسنة 2020 المؤرخ في 12 أفريل ليمنح رئيس الحكومة
تفويضا بإصدار مراسيم لغرض مجابهة فيروس كورونا (كوفيد -19) وهو ما يستشف سواء من
عنوان ذلك القانون أو من خلال ضبطه للميادين المعنية به بصفة حصرية.
إلا
أنه بالرجوع للمرسوم عدد 12 يلاحظ منذ الوهلة الأولى وانطلاقا من عنوانه أنه متعلق
بإتمام مجلة الإجراءات الجزائية مما يوحي أن رئيس الحكومة تجاوز حدود التفويض النيابي
بإصدار مراسيم خاصة لمواجهة الكورونا، ثم يتأكد ذلك التجاوز عند إرساءه لنظام
المحاكمة عن بعد في الحالات العادية والطبيعية والتي تخالف تماما ما جاء به
القانون عدد 19 لسنة 2020، رغم أن عنونة المرسوم مثلما تم الإلماع إليها لم تتناسق
مع التفويض إلا أنه كان يمكن تجاوزها لو انحصر تدخله فقط في الحالات الاستثنائية
الكورونا مثلا.
لم
تقتصر الخروقات الدستورية فقط على تجاوز حدود التفويض بل شملت أيضا تجاوزا لإجراء
عرضه على المجلس الأعلى للقضاء لإبداء الرأي فيها وتقديم مقترحاته وذلك طبقا للفصل
114 من الدستور والفصل 42 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المتعلق بالمجلس
الأعلى للقضاء بإعتباره من مشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء.
وتجدر
الإشارة أن إجراء العرض على المجلس الأعلى للقضاء تم تجاوزها أيضا عند صدور
المرسوم عدد 08 لسنة 2020 المتعلق بتعليق الإجراءات والآجال إذ أكد رئيس المجلس
أنه لم يتم أخذ الرأي الوجوبي[11].
إذن
قد لا يحظى مرسوم المحاكمة عن بعد بمصادقة أعضاء مجلس النواب عند عرضه عليهم بمجرد
انتهاء أمد التفويض، وحتى في صورة المصادقة عليه فإنه قد يكون عرضة للطعن بعدم
دستوريته أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين طبق الفصل 120 من الدستور.
لكن
على خلاف المشرع الوطني فإن المشرع الفرنسي كان أكثر دقة ووضوحا صلب المرسوم عدد
303-2020 المؤرخ في 25 مارس 2020 ويفهم ذلك من عنوانه بأنه متعلق بتكييف قواعد
الإجراءات الجزائية على أساس قانون الطوارئ عدد 2020-290 لمواجهة وباء كوفيد 19[12]،
وأكثر اتساقا مع الغاية التي شرع من أجلها وهي مجابهة فيروس كرورنا وحماية كل
المتداخلين في المشهد القضائي ولم يشمل فقط المتهم الموقوف بل شمل الشهود والمتضرر
والقائمين بالحق الشخصي والمحامين، كما منح إمكانية استعمال وسائل الاتصال السمعي
البصري لمختلف الجهات القضائية ولم يقتصر نطاقها فقط على طور المحاكمة بل طال حتى
التمديد في الاحتفاظ والإيقاف التحفظي، كما منح للمحامي الحق في الحضور مع منوبه
والدفاع عنه عبر تلك الوسائل حتى عند سماعه من طرف باحث البداية بل ومنحه حتى
إمكانية تقديم مطالب الإفراج واستئناف قرارات رفضها عن بعد ، ونفس الأمر بالنسبة
لنائب القائم بالحق الشخصي.
بل
وذهب المشرع الفرنسي إلى أبعد من ذلك إذ مكن القاضي المتعهد في حالة وجود استحالة لاستعمال
وسائل الاتصال السمعي البصري من الاستعانة بوسائل الاتصال الأخرى الإلكترونية
والهاتفية، على خلاف المرسوم عدد 12 الذي اكتفى باستعمال وسائل الاتصال السمعي
البصري.
لم
تقتصر الاستثناءات التي جاءت بالمرسوم الفرنسي على الوسائل والأطراف بل طالت حتى
إجراءات وآجال الطعون والتي تمت مضاعفتها، وأجاز إمكانية تقديمها عن طريق رسالة
مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ دون التقيد بالإجراءات الواردة بالفصل 502 من
مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية، كما منح لرؤساء المحاكم الابتدائية والاستئنافية
في صورة وجود استحالة جزئية أو كلية تحول دون انعقاد الجلسات تغيير تركيبة المحاكم
والاقتصار في بعض الأحيان على قاض منفرد يترأس دائرة ذات تركيبة ثلاثية.
بالرجوع
إلى المرسوم عدد 12 يتبين أن الغاية الحمائية التي من أجلها جاء التفويض الحكومي
لم تُحترم في ظل عدم وجود تنصيص صريح لاستثناء مبدأ العلنية وذلك بإمكانية انعقاد
الجلسات الجزائية التي تتزامن مع انتشار أحد الأمراض السارية دون حضور جمهور
المحاكم، وهو ما ذهب إليه المشرع الفرنسي صلب المرسوم سالف .
كما
لم ينظم مسألة تسجيل تلك المحاكمات وآجال الاحتفاظ بتلك التسجيلات وإجراءات
إعدامها وإتلافها حماية للمعطيات الشخصية، ذلك على خلاف المشرع الفرنسي الذي نظم
تلك المسألة صلب مجلة الإجراءات الجزائية.
يستخلص
مما سبق ذكره أن إجراءات المحاكمة عن بعد جاءت في تناقض تام مع غاياتها وهي سرعة
فصل النزاع و حماية جميع أطرافه، فمن خلال الشكليات الكتابية الواردة بالفصل 141
مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية وآجال الإعلام بقرار اعتماد تلك الآلية التي تمت
الإشارة إليها سابقا لا يمكن أن تزيد المحاكمة الجزائية إلا بطئا.
رغم
التباين الكبير بين المشرع الفرنسي والتونسي في إجراءات المحاكمة عن بعد إلا أنهما
اشتركا في عدم تعرضهما لمسألة تجريم وعقاب كل شخص أو جهة يمكن أن تتلاعب بمنظومة
المحاكمة عن بعد سواء بالفيديوهات أو
المعلومات.
لقد
آتى المرسوم عدد 12 لسنة 2020 في ظرفية استثنائية متسمة باستئساد الجائحة وطنيا
ودوليا وفي محاولة من المشرع للتعجيل في نسق محاكمات الموقوفين لارتباطها بحرية
الأفراد، فكان نصا مرتبكا حمل الهنات المذكورة سلفا، وقد تزيد إكراهات الواقع في عُسر
تطبيقه.
الفقرة
الثانية: الحدود الواقعية:
لا
يمكن الحديث عن نجاعة آلية المحاكمة عن بعد سواء من خلال دورها الحمائي أو من خلال
دورها في إطار عصرنة العدالة وسرعة الفصل في النزاعات وتقريب القضاء من المتقاضي،
قبل الحديث عن واقع مرفق العدالة في تونس الذي يشكو في أغلب الأحيان من نقص حاد
حتى في مستلزمات العمل البسيطة كالأوراق المخصصة لطباعة الأحكام وحبر آلات
الطباعة، ومكاتب لا تليق بالقضاة أو الموظفين، وقاعات جلسات تغرق في الرطوبة
والظلام، واقع لم يتغير رغم وجود اتفاقيات شراكة بين الدولة التونسية والاتحاد
الأوروبي ممولة من هذا الأخيرة بمبالغ هامة تعنى بمرفق العدالة من ذلك برنامج
تعصير المنظومة القضائية و برنامج دعم إصلاح القضاء إلا أن تلك النقائص مازالت
موجودة لذلك لا بد من تجاوزها حتى تكون الأرضية الأساسية لانطلاقة ناجعة لنظام
المحاكمة عن بعد.
كما
أنه لا يمكن الحديث عن آلية المحاكمة عن بعد إذا لم تأتي في إطار تصور شامل لرقمنة
العدالة أو عصرنتها على غرار عديد القوانين المقارنة فالجزائر مثلا ذهبت في ذلك الاتجاه
من خلال القانون عدد 15-03 لسنة 2015 المتعلق بعصرنة العدالة والذي حددت أهدافه في
فصله الأول وهي وضع منظومة معلوماتية مركزية بوزارة العدل، وإرسال الوثائق
والمحررات القضائية بطريقة إلكترونية واستخدام تقنية المحادثة المرئية عن بعد في
الإجراءات القضائية، كما أخذت العصرنة في عديد البلدان أشواط متقدمة من ذلك نذكر
إمارة أبوظبي التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة والتي أرست ما يعرف بالمحاكمات الميدانية أو
المحاكم المتنقلة عبر حافلات مجهزة للغرض.
رغم
ذلك فإن الخطى لم تتسارع في تونس للدخول الفعلي والعملي في برامج تعصير ورقمنة
العدالة، وحتى إن وجدت الاتفاقيات ورصدت الميزانيات إلا أن أغلبها بقيت حبرا على
ورق، فمنذ نوفمبر 2017 تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزير العدل ووزير تكنولوجيا
الاتصال والاقتصاد الرقمي حول " تنفيذ برنامج العدالة الرقمية "[13]
والتي حددت مدة تنفيذها بثلاثة سنوات تنطلق من تاريخ توقيعها، الهدف منها إرساء
نظام معلوماتي متكامل خاص بمنظومة العدالة في تونس ترتكز على ثلاثة محاور أساسية، أولها النفاذ إلى
المعلومة وإلى القانون من خلال تركيز نظام معلوماتي متطور، وثانيها رقمنة الأحكام
والملفات وإحكام أرشفتها إلكترونيا، وثالثها تركيز شبكة إدارية مندمجة لتراسل
المعطيات ذات سعة عالية، تشمل كافة المحاكم والمؤسسات الراجعة بالنظر لوزارة العدل،
وإلى حد كتابة هذه الأسطر ورغم بلوغنا سنة 2020 ورغم الميزانية الضخمة المرصودة
وقدرها 62 ألف مليون دينار التي من المفروض أن تكون تلك الإجراءات الواردة
بالمذكرة قد بلغت مراحل متقدمة في تنفيذها.
وفي
هذا الإطار لا يمكن المرور دون الإشارة بأن السلطة التنفيذية في إطار مشروع قانون
المالية لسنة 2020 اقترحت إحداث صندوق خاص بدعم العدالة ودعم البنية التحتية
للمحاكم وتعصير ظروف العمل بها وتيسير النفاذ للعدالة يتم تمويله بنسبة 20% من
مبلغ الخطايا المستخلصة المحكوم بها في المادة الجزائية ومن الهبات والمساعدات
المسندة، إلا أنه لم يحظى بمصادقة أعضاء مجلس النواب.
كل
العوامل المذكورة سالفا من شأنها أن تنذر بانطلاقة عرجاء لآلية المحاكمة عن بعد،
وتربك مسارها.
[1] ADAGES Classiques formules juridiques en
Latin /Professeur Jean Paul Doucet (www.ledroitcriminel.fr)
[2]
د.وائل حمدي علي، التقاضي الإلكتروني في
العقود الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة 2009 ص 7-9
[3] ، دار النهضة
العربية،2006، ص25vidéo conférenceعادل يحي، التحقيق والمحاكمة الجنائية عن
بعد، دراسة تحليلية تأصيلية لتقنية(
[4]
قانون إتحادي رقم 5 لسنة 2017، في شأن
إستخدام تقنية الإتصال عن بعد في الإجراءات الجزائية.
[5]
القانون عدد 15-03 المؤرخ في أول فيفري سنة
2015 المتعلق بعصرنة العدالة.
[6]
كرسها على مراحل صلب مجلة الفصل 706-71 من مجلة
الإجراءات الجزائية الفرنسية بموجب القانون عدد 1436 لسنة 2009 والمنقح بالقانون
عدد 1636 لسنة 2016
[7]
المرسوم عدد 306 لسنة 1992 المعدل بالقانون
عدد 356 لسنة 1992 المنظم لكيفية إجراء تلك التقنية في التحقيق الجزائي عن بعد ثم
تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية الإيطالية بموجب القانون عدد 11 لسنة 1998.
[8] "Necessitas est lex temporis"
Professeur Jean Paul Doucet (مرجع سابق)
[9]
الإتفاقية الأوروبية للمساعدة القضائية في
المسائل الجزائية لسنة 2000، والبروتوكول الإضافي الثاني للإتفاقية الأوروربية
للمساعدة المتبادلة في المسائل الجزائية والتي تم التوقيع عليه في ستارزبورغ في
08/11/2001 ودخل حيز التنفيذ في 01/20/2004 المصدرالموقع الإلكتروني لمجلس أوروبا:
www.coe.int/en
[10] Article
706-71 du code de procédure pénale Modifié par Ordonnancen 2016-1636 du 1 er décembre 2016-art4. www.legifrance.gouv.fr
[11]
تصريح إعلامي لرئيس المجلس الأعلى للقضاء على
بوابة الإذاعة التونسية:
www.radiotunisienne.tn
[12]
Ordonnance n° 2020-303
du 25 mars 2020 portant adaptation de règles de procédure pénale sur le fondement de la loi n°
2020-290 du 23 mars 2020 d’urgence pour faire face à l’épidémie de covid-19
[13] Issam
Yahyaoui: Plaidoyer pour une transformation numérique de la justice en Tunisie,
article publié sur Leaderds.tn le 17 avril 2020
نسخ الرابط | |
نسخ للمواقع |
0 التعليقات:
إرسال تعليق