تابعونا على الفيسبوك

Disqus

حق الخلوة الشرعية للسجين

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته


سعيد بواطاس





مقدمة: 
يواجه الإنسان عبر رحلة الحياة كثير من المواقف والظروف منها ما هو جميل مسر، ومنها ما هو قبيح مخيف، وكيفما كانت هذه الظروف فإنها تبقى من قبيل القضاء والقدر الذي لا يملك الإنسان سبيلا في جلبه أو رده. ولعل من بين الظروف التي قد يمر بها الإنسان في حياته دخول السجن لقضاء ما قضي به عليه من عقوبة سالبة للحرية جراء ارتكابه لنشاط جرمي معين، حيث يجد بذلك الشخص نفسه وحيدا بعيدا عن أفراد مجتمعه وأسرته، فيشتد عليه الخناق ويرتبك نظام حياته وتتدهور تفاصيل عيشه، وهو الأمر الذي يزداد حدة وصعوبة كلما كان السجين إنسانا متزوجا آلف الأنسة والمودة والمساكنة بما تبعثه في النفس من راحة وتوازن أصبح بوضعيته تلك محروما منها، فيجد نفسه بين متناقضين هما الحاجة إلى مساكنة أهله والاختلاء بهم اختلاء شرعيا يحقق به تلك الغايات، وحتمية قضاء عقوبة لا مناص منها كوسيلة من وسائل الردع والإصلاح التي اختارها المجتمع للحفاظ على أمنه وسلمه وتوازنه.
وبهذه الوضعية تطرح مسألة ضرورة التوفيق ما أمكن بين هذين المتناقضين حفاظا على إنسانية السجين التي لا يستساغ بأي حال من الأحوال تجريده منها، خاصة مع انتشار واقتناع الأمة بفكرة العمل على التوفيق بين السجن كأسلوب زجري لكل من عاق القانون واقترف ما لا يرضاه المجتمع، وبين النظر إليه كوسيلة لإعادة تأهيل السجين وإصلاحه تمهيدا لعودته إلى وسطه الاجتماعي صالحا سويا لا تشوبه شائبة.
وهكذا فإن حق السجين في الخلوة الشرعية فرض نفسه بإلحاح شديد منذ أن اهتدت البشرية إلى اعتماد أسلوب سلب الحرية للردع عن الجرائم، وازداد ببروز تلك الأفكار التوفيقة، فبحثه الفقهاء المسلمين وقننته بعض التشريعات الوضعية مبرزين موقفهم منه، وهو الموقف الذي نرى ضرورة مناقشته في سبيل ترجح موقف على آخر حسب ما يتحقق منه آثار. وهو ما سنحاول معالجته في هذه العجالة وفق الخطة التالية:
الفقرة الأولى: موقف الشرع والقانون من حق الخلوة الشرعية للسجين.
الفقرة الثانية:  ضوابط وآثار ممارسة حق الخلوة الشرعية للسجين .



الفقرة الأولى : موقف الشرع والقانون من حق الخلوة الشرعية للسجين

لا ريب في أن لا أحد يمكن أن ينكر على الشخص ذكرا كان أو أثنى حقه في الاختلاء بزوجه الشرعي متى شاء، باعتبار ذلك من الحقوق المسلم بها للأزواج بمقتضى الميثاق الغليظ الرابط بينها، غير أنه إذا كان اعتبار هذا الحق بالنسبة للأزواج الأحرار من المسلمات التي لا تقبل الجحد على الإطلاق، فإنه يتحول إلى مسألة قابلة للنقاش بتحول وضعية أحدهم إلى سجين مخل بواجباته الاجتماعية استوجب حبسه وإبعاده عن زوجه الآخر، وهو ما يجعلنا نتساءل في إطار هذا النقاش عن موقف الشرع (أولا) والقانون الوضعي (ثانيا) من هذا الحق؟
أولا: موقف الشرع من حق الخلوة الشرعية للسجين

أولى الشرع الإسلامي الحكيم حقوق السجين برعاية ملموسة حفاظا على كرامته وإنسانيته، بدءا بحقه في صحة جيدة ومرورا بحقه في صحة وتغذية جيدة وسليمة وانتهاء بحقه في صيانة كرامته منذ دخوله السجن إلى غاية انقضاء عقوبته وخروجه منه[1]، ولعل من بين الحقوق التي يقتضيها الحفاظ على إنسانية السجين وعيشه حياة متوازنة، حقه في الخلوة الشرعية كلما كان متزوجا، وهو الحق الذي بحثه فقهاء الشريعة الإسلامية ونظروا له في إطار ما تسمح به النصوص الشرعية، مما أفرز مواقف عدة تتباين بين قائل بحق السجين في الخلوة الشرعية بزوجه في السجن كلما طلب ذلك وهو قول الحنفية والحنابلة وبعض الشافعية، وبين مانع لهذا الحق وهو قول المالكية وبعض الحنفية، وهناك أخيرا من يقر بهذا الحق مع تقييده بإمكانية الحرمان منه من طرف ولي الأمر متى كان في ذلك مصلحة مشروعة وهو قول بعض فقهاء الشافعية.

وأمام تعدد هذه المواقف وتباينها وضيق المناسبة للتطرق إلى كل منها بتفصيل أكاديمي يشفي غليل القارئ ويغنيه عن الرجوع إلى مصادر الموضوع، فحسبنا أن نتطرق إلى قول المذهب المالكي باعتباره مذهب المملكة والمصدر الإسلامي الأول لقانونها الوضعي.

وهكذا، فالبرجوع إلى قول فقهاء المالكية بخصوص هذا الموضوع نجدهم من أبرز، بل من متزعمي القول المانع لحق السجين في الخلوة الشرعية بزوجه في السجن[2]، مستدلين على ذلك بأن تمكين السجين من زوجه ينافي المقصد الشرعي من السجن الذي هو التضييق عليه وإيقاعه في الضجر حتى يرتدع ويكف عن أفعاله المخالفة لنظام المجتمع[3]، إذ قال سحنون: "من سجن في دين لامرأته أو غيرها فليس له أن تدخل إليه امرأة، لأنه سجن للتضييق عليه، فإذا لم يمنع لذته لم يضيق عليه"[4].

وفي محاولة لمناقشة هذا المذهب بناء على التبرير الذي بني عليه، نقول إن من أبرز المبادئ المستقر عليها جنائيا مبدأ شخصية العقوبة الذي يفيذ بأن العقوبة تسري في حق المذنب مرتكب الفعل المحظور ولا يجب أن تتعداه إلى غيره مهما كان قريبا منه كأن يكون من أشخاص أسرته أو عائلته أو أقربائه، وذلك امتثالا لقوله عز وجل: " ولا تزر وازرة وزر أخرى"[5]، ومن المعلوم بالبداهة أن الخلوة الشرعية ومعايشة الزوجين جنسيا لبعضهما البعض لم تقرر لا شرعا ولا علميا لفائدة طرف دون آخر، بل هي لحظة إنسانية لإشباع كل واحد من الزوجين حاجته الجنسية الملحة والمشروعة في الآن ذاته، وبالتالي فإن منع أحد الزوجين باعتباره سجينا من الالتقاء بالآخر لقاء الأزواج بذريعة ردعه والتضييق عليه، فيه منع للزوج الآخر الحر الطليق من قضاء حاجته الجنسية المشروعة وتضييق عليه، وبالتالي مد آثار العقوبة إليه وهو خرق صارخ لمبدأ شخصية العقوبة المتحدث عنه.

هذا، ورب قائل يقول بأن الشرع خول الرجل مكنة الطلاق كلما تضرر، ومنح المرأة حق طلب التفرقة بسبب السجن، وبالتالي أتاح لكل واحد منهما طريقا لتفادي المس بحقه في لقاء زوجه ومنه تلافي خرق مبدأ شخصية العقوبة الذي نحن بصدد التعليل به والدفاع عنه، فتنتفي بذلك ضرورة إجازة هذه الخلوة الشرعية، غير أن ذلك في نظرنا لا ينهض مبررا مقنعا لما يفضي إليه من تفريق الأسر وخلق مشاكل اجتماعية أكثر خطورة من مشاكل عدم تمتيع السجين بحقه في الخلوة الشرعية، ومناف أيضا لمقاصد الشرع والقانون في الحفاظ على ديمومة الأسر، وهادم للمبدأ الفقهي القاضي بأن الضرر لا يزال بمثله فكيف بما هو أشد منه. ومن ناحية أخرى قد يبرر البعض مذهبه بأن إقرار الخلوة الشرعية للسجين معارض ببعض النصوص الشرعية كالحديث الشريف الذي روته عائشة رضي الله عنها حيث قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت بعلها فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله"[6]، وردا على هذا التبرير نقول بأن الاستدلال ورد في غير موضعه، إذ إن مفاد الحديث هو منع المرأة من كشف عورتها في غير بيت زوجها سدا لذريعة اتهامها بإتيان الفاحشة، أما قيامها بذلك في مكان آمن كمؤسسة سجنية منظمة قانونا وبحضور زوجها فلا حرج في ذلك، فضلا عن أنه وحتى على فرض ضرورة التمسك بحرفية النص فإن الضرورات تبيح المحظورات.
واسترسالا في الاستدلال لضرورة إقرار حق السجين في الخلوة الشرعية نقول بأن جماع الزوج لزوجه الآخر واجب عليه وحق للزوج الآخر، وهو ما رجحه أيضا فقهاء المالكية وحثوا على تحقيقه بحسب قدرة الزوج وكفاية زوجه الآخر[7]، ففي الحديث أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص "يا عبد الله ألم أخبرك أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا "[8]، فلا يستقيم بالتالي قول حرمان الزوج الحر من حقه في الخلوة الشرعية بحرمان الزوج السجين منها، ولا منع هذا الأخير من القيام بواجبه رغما عن إرادته، حتى يصبح السجن سببا مانعا من القيام بالواجبات الزوجية التي يتفق الجميع على أنها لا تسقط به.
وخلاصة القول أن المذهب المالكي منع حق السجين في الخلوة الشرعية مخالفا بذلك بعض مبادئ الشرع والحياة التي نأمل أن يراعيها القانون الوضعي ويقر بهذا الحق.



ثانيا: موقف القانون من حق الخلوة الشرعية للسجين
أطر المشرع المغربي تنفيذ العقوبات السالبة للحرية داخل المؤسسات السجنية بمقتضى القانون رقم 98. 23 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية[9]، وكذا المرسوم رقم 2.00.485 الذي حددت بموجبه كيفية تطبيق هذا القانون[10].
وباقتفاء قضية البحث في هذه الترسانة القانونية نكاد نجزم بأن المشرع المغربي لم ينص صراحة على حق السجين في الخلوة الشرعية وهو ما قد يوحي إلى عدم اعتراف المشرع المغربي بهذا الحق، إلا أن وطأة هذا الإحاء سرعان ما تخف باكتشاف غموض العديد من النصوص القانونية التي تتحدث عن حقوق السجين بصفة مجملة فاسحة المجال لكل التأويلات.
ومن بين هذه النصوص القانونية نجد المادة 74 من القانون 23.98 أعلاه، التي تنص على أنه: "يجب بصفة خاصة الحرص على الحفاظ على علاقة المعتقل مع أقاربه وتحسينها، كلما تبين أن في ذلك فائدة له ولعائلته، وذلك لتسهيل إعادة إدماج المعتقل داخل وسطه العائلي عند الإفراج عنه"، فباستقراء هذا النص نجده يلح على ضرورة استمرار علاقة المعتقل مع أقاربه، مما ينم على أن المشرع المغربي حارص على الاحتفاظ للسجين بحقه في الحفاظ على الروابط مع أقاربه. ولعل الزوج الآخر من أقرب الأقارب للسجين، والحفاظ على العلاقة به من أولى أولويات الحفاظ على هذه العلاقة، إلا أن تحقيق ذلك يبقى صعب المنال دون تمكين السجين من زوجه في إطار خلوة شرعية كاملة باعتبارها من أبرز مظاهر هذا الاقتراب وذلك لما فيها من فائدة له ولعائلته ــ كما سنبين ذلك لاحقا ــ خاصة وأن النص جعل من شروط الحرص على الحفاظ على الروابط العائلية أن يكون ذلك في صالح السجين وعائلته، وأن يكون من شأنه تسهيل إعادة إدماجه داخل وسطه العائلي عند الإفراج عنه، وهي كلها أمور تتحقق لا محالة بضمان ممارسة السجين لحقه في الخلوة الشرعية بأهله.
ولعل من النصوص القانونية التي قد يلمس فيها الباحث العلاقة بموضوع البحث لتحدثها أيضا عن مقصد الحفاظ على الروابط العائلية للسجين وتهيء إدماجه الاجتماعي، نجد المادة 46 من القانون نفسه[11] التي تخول لوزير العدل إمكانية منح السجين رخصة للخروج من السجن للقاء عائلته لمدة لا تتعدى عشرة أيام وذلك بهدف الحفاظ على الروابط العائلية أو لتهيء إدماجه الاجتماعي، كلما توافر شرطي قضاء نصف مدة العقوبة على الأقل واشتهار السجين بحسن السلوك، حيث إنه بالقراءة الأولية لهذا النص قد يظهر بأنه يمكن أن يشكل سندا قانونيا للقول بتكريس المشرع المغربي لحق السجين في الخلوة الشرعية اعتبارا لتطرقه لنفس المقاصد المتوخاة من إقرار هذا الحق، غير أنه بالتآني البسيط في قراءة مضامين النص الخفية وربطها بالشروط التي قيد بها إعمال النص يتضح أنه لم يوضع للاعتراف بمثل هذا الحق وإنما لتكريس حق آخر بعيد كل البعد عن الحق موضوع البحث، وهو حق الخروج من السجن استثناء في بعض المناسبات الموسمية أو الأحداث العارضة كوفاة أحد الأقارب مثلا، فهو إذن لم يشرع لإقرار حق الخلوة الشرعية التي لا تتسم ممارستها الطبيعية لا بالموسمية، ولا بالعرضية بقدر ما تتسم بالديمومة على طول السنة وكلما رغب السجين وزوجه في ذلك. وبالتالي يبقى نص المادة 74 المشار إليه أعلاه أقرب أكثر من غيره إلى جعله سندا قانونيا للقول بتنظيم المشرع المغربي لحق الخلوة الشرعية للسجين.
وبهذه القراءة البسيطة والمستعجلة لنصوص القانون المنظم للمؤسسات السجنية يتضح أن المشرع المغربي وإن أحجم عن الاعتراف صراحة بحق السجين في الخلوة الشرعية إلا أنه سن نصوص قانونية فضفاضة بإمكان القائمين على شؤون السجناء الاستناد عليها وتمتيع السجين بهذا الحق، خاصة مع وجود عدة بوادر تزكي طرح القول باعتراف المشرع المغربي بهذا الحق لعل أهمها الإقرار الصريح لوزارة العدل والحريات الوصية على جزء هام من هذا القطاع بهذا الحق، وذلك في تقديمها للنصوص القانونية المنظمة للسجون من خلال إصدارات مركز الدراسات والأبحاث الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو[12]، حيث جاء فيها: "... أن من جملة الحقوق والضمانات المكرسة قانونا والمنسجمة في اتجاهها العام مع شروط النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء كما هي متعارف عليها دوليا إقرار الحق في الخلوة الشرعية". علاوة على أن تقرير المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان يؤكد بأن إدارة السجون بادرت في إطار الحفاظ على الروابط الأسرية للسجين إلى إحداث نظام الخلوة الشرعية الذي يتيح الاختلاء بالزوج أو الزوجة، رغم ملاحظة بعض أوجه الخصاص فيما يتعلق بتعميم فضاءاتها بالسجون[13]، وإن كانت المندوبية العامة لإدارة السجون تنكر صراحة سماح المشرع بممارسة هذا الحق وأنها تطبقه فقط كامتياز حقوقي ومكافأة لكل من حسن سلوكه[14] .
هذا، وإنه لما كان موقف القانون المغربي غير واضح، ارتادنا الفضول العلمي لمعرفة موقف بعض القوانين المقارنة وخاصة العربية منها، فكان القانون الأردني محط الاختيار، لنجده بأنه أقر صراحة بهذا الحق، حيث نصت المادة 20 من قانون مراكز الإصلاح والتأهيل رقم 9 لسنة 2004 م على أن: " لكل نزيل محكوم عليه بمدة سنة أو أكثر الاختلاء بزوجه الشرعي في مكان في المركز يخصص لتلك الغاية تتوافر فيه شروط الخلوة الشرعية ووفق تعليمات يصدرها المدير "، وحسنا فعل المشرع الأردني بتشريعه الصريح لهذا الحق، وإن كان ذلك مشوبا بعض النواقص من قبيل حصر المستفيذ من ذلك الحق في السجين الذي صدر في حقه حكم قضائي، مبعيدا بذلك الأشخاص المعتقلين احتياطيا بالرغم من أن ممارسة حق الخلوة الشرعية لا علاقة له بطبيعة اعتقال السجين، مما يجعل هذا القيد بغير حكمة ولا مقصد، ثم تقييد ممارسة الخلوة الشرعية بكون مدة الحبس سنة فأكثر، وهي مدة طويلة من شأن الالتزام بها إفراغ الإقرار بهذا الحق من فحواه ومقصده.
وأيا كانت طريقة تقنين هذا الحق في القوانين الوضعية والنواقص التي تعتريه، فالمهم هو الحرص على تطبيقه فعليا تحت ضوابط دقيقة تكفل تحقيق الآثار المنشودة منه.



الفقرة الثانية: ضوابط وآثار ممارسة حق الخلوة الشرعية للسجين
بعد التعرف على موقف الشرع والقانون من حق الخلوة الشرعية للسجين واتجاهنا منحى ضرورة تمتيع السجين بهذا الحق شرعا وترجيح الاعتراف له به قانونا وإنزاله على أرض الواقع، إلا أن هذا الإنزال وحتى تتحقق منه الآثار الإيجابية المنشودة لابد وأن يكون وفق ضوابط دقيقة تصون إنسانية السجين وكرامته. لذلك ارتأينا التعريج على بعض ضوابط ممارسة هذا الحق والآثار المترتبة عن هذه الممارسة كالآتي:
أولا:  ضوابط ممارسة حق الخلوة الشرعية للسجين
إن الخلوة الشرعية وإن كانت حقا يجب الاعتراف به للسجين وإتاحة ممارسته له بشكل يحقق المقاصد الشرعية والقانونية التي شرع من أجلها، إلا أن هذه الممارسة يتعين تقييدها بضوابط تكون قواعد لهذه الممارسة وتحد من كل ما قد يطرأ من هفوات إبان تطبيق هذا الحق.
ولعل من أول الضوابط التي يتعين مراعاتها التأكد من توافر علاقة زوجية شرعية بين السجين والشخص الذي يراد ممارسة هذا الحق معه، وذلك بضرورة الإدلاء للجهات القائمة على المؤسسة السجنية بعقد زواج رسمي أو حكم قضائي مثبت للعلاقة الزوجية، تلافيا لاستغلال هذا الحق في ممارسة علاقات غير قانونية في عقر مكان مخصص للزجر عن مخالفته. وبمجرد التأكد من توافر الرابطة الشرعية إلا وكان على المؤسسة السجنية عبء توفير مكان ملائم لممارسة الخلوة الشرعية في ستر تام يحفظ للسجين وزوجه كرامتهما ويكفل عدم اطلاع غيرهم على أسرار خلوتهم الشرعية، وهو ضابط يصعب تحقيقه دون تطبيق نظام محكم يشكل في حد ذاته ضوابط لممارسة هذا الحق، يكون من شأنه رفع الاكتضاض والاستغلال المفرط لهذا المكان، لما يمكن أن ينجم عن ذلك من مس بظروفه الصحية.
هذا، فإن مما يتعين البدء به أولا لتنزيل هذا النظام هو توثيق جميع زيارات ممارسة هذا الحق في سجل رسمي معد لذلك، ثم تحديد فترات زمنية محددة خلال الأسبوع بأن يكون ذلك مرة كل أربعة أيام استئناسا بحق الزوجة في جماع زوجها مرة كل أربع ليال، كما قال بذلك المالكية مستدلين بأن للرجل أن يتزوج أربعا من النساء فكان حق كل امرأة مرة كل أربع ليال[15]، مع إعطاء الحق للسلطة القضائية وحدها لتحديد مدة أطول تجنبا لجعل المنع لمدة أطول وسيلة تأديبية عن ما قد يقترفه السجين من سلوكات مشينة، وبالتالي جعله تحت رحمة مدير المؤسسة السجنية[16].
 وفي أخير بحث هذه الضوابط نرى ضرورة إعطاء الأولوية في الاستفادة للسجناء الذين قضوا مدة أطول في السجن أيا كانت طبيعتها بأنها نهائية أو مجرد اعتقال احتياطي، وذلك بتحديد مدة أربعة أشهر كأقصى مدة يمكن حرمان السجين فيها من الاختلاء بزوجه، عملا بالمدة التي حددها الشرع في حالة الإيلاء عند قوله تعالى: " للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر"[17]، حيث إن فيما زاد عن أربعة أشهر مظنة لحوق العنت والضرر بالزوج الآخر، وبالتالي خرق مبدأ شخصية العقوبة كما تطرقنا لذلك سلفا، وأيضا عملا بما سار عليه السلف الصالح من الخلفاء لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه وقت للجند أربعة أشهر ثم أمرهم بالعودة إلى نسائهم، إذ روي أنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول شعر:
تطاول هذا الليل واسود جانبه             وأرقني ألا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله أني أراقبه                    لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر نساء: كم تصبر المرأة عن الرجل؟ فقلن: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفذ الصبر، فكتب إلى أمراء الأجناد ألا تحبسوا رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر "[18]، وما الحبس إلا أهول من الجندية على السجين وأقاربه.
علاوة على كل ذلك فإن من الضوابط كذلك التي نخالها جديرة بالذكر، تصحيح تلك النظرة الدونية التي يحملها بعض القائمين على السجون تجاه السجناء وتثقيفهم بمدى أهمية تطبيق هذا الحق وتحسيسهم بفوائده إن على السجين أو على القائمين على السجن أنفسهم، اعتبارا لما ينجم عن هذا التطبيق من كبح سلوكيات مشينة سيصبحون في غنى عن مراقبتها وتدبير حلول لها، وهي كلها آثار إلى جانب أخرى سنتناولها في الفقرة الموالية.
ثانيا: آثار ممارسة حق الخلوة الشرعية للسجين
لا مراء أن تمكين السجين من حقه في الخلوة الشرعية بالضوابط السالفة الذكر يرتب آثارا اجتماعية وصحية مهمة، وهي كلها آثار تعج بالمصالح لا المفاسد، ارتأينا التطرق إليها ولو بشيء من الاختصار كالآتي:
-    الحفاظ على ديمومة العلاقة الزوجية بين السجناء وأزواجهم اعتبارا لتحقق جزء هام ومقصد بارز من العلاقة الزوجية بممارسة الخلوة الشرعية، وبالتالي الحد من طلبات التفرقة المبنية على سبب الغيبة التي تتحقق لا محالة بالسجن، خاصة وأن مثل هذه الطلبات مكفولة شرعا وقانونا بمقتضى المادة 106 من مدونة الأسرة.
-    الحد من لجوء السجين للسلوكات الشاذة الناجمة عن بعده عن زوجه سواء تعلق الأمر بسلوكات الشذوذ الجنسي من لواط وسحاق أو غيرهما من السلوكات الفردية الجنسية الأخرى، وهو آثر مهم لما ينجم عنه في الآن ذاته من حماية لصحة السجناء بتلافي انتشار مختلف الأمراض التي تترتب عن هذه السلوكات الشاذة.
-    حماية السجين من الانحرافات السلوكية العنيفة والمشاحنات والاضطرابات النفسية الناجمة عن عدم تمكينه من حقه في الخلوة الشرعية إشباعا لحاجاته الجنسية كإنسان، المؤدية إلى الوقوع في أفعال جرمية أخرى قد تكون أشد خطورة من تلك التي دخل بسببها السجن.
-    التخفيف من مجهودات القائمين على المؤسسة السجنية لتحقق الاستقرار والاستقامة في سلوك السجناء المستفدين من حقهم في الخلوة الشرعية.
-    الوقاية من لجوء زوج السجين إلى سلوكات جنسية محرمة شرعا وقانونا كالارتماء إلى الخيانة الزوجية.



خاتمة:
من خلال هذه الدراسة المستعجلة لموضوع حق الخلوة الشرعية للسجين وتعايشنا مع مواقف بعض الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، توصلنا إلى أن الفقهاء المتقدمين اجتهدوا للتقعيد لهذا الحق حتى اتضحت مواقفهم منه وسار بعدهم على نهجهم مشرعوا القوانين الوضعية.  
والحق يقال، فإقرار هذا الحق وضمان تنزيله كان ولا زال من بين الأولويات، وأصبحت دراسته وإثارة الانتباه إليه من بين المتطلبات لا مجرد اعتباره مادة للترف الفكري والمناقشات النظرية العقيمة. وهي الخلاصة العامة التي انتهى إليها البحث، والتي من منطلقها وفي سبيل تحقيق غايتنا العلمية، يكون لزاما علينا تجلية أمرين أساسيين:
أولهما، استنتاجات البحث التي من خلالها سنبرز أهم ما توصل إليه البحث من نتائج نخالها خلاصة الخلاصة.
وثانيهما، اقتراحات انقدح في ذهننا أنها تكمل النواقص التي تعتري تقنين هذا الحق وتطبيقه، فكان أهم ما خلصت إليه من نتائج كالآتي:
1) أن المذهب المالكي السائد في المملكة منع حق السجين في الخلوة الشرعية مخالفا بذلك بعض مبادئ الشرع والحياة، وخاصة مبدأ شخصية العقوبة ومبدأ حتمية العلاقة الجنسية بين الأزواج.
2) أن المشرع المغربي لم يعترف صراحة بحق السجين في الخلوة الشرعية، إلا أنه سن نصوص قانونية مجملة قابلة للتأويل لفائدة للسجين، مخالفا بذلك توجه بعض القوانين المقارنة وخاصة منها القانون الأردني.
3) أن هناك ضوابط دقيقة يتعين مراعاتها عند تطبيق حق الخلوة الشرعية تصون هذه الممارسة من الزلل والخروج بها عن مقصدها.
4) أن من شأن تنزيل حق الخلوة الشرعية للسجين على أرض الواقع تحقيق آثارا اجتماعية وصحية مهمة لا تقع تحت حصر.
ومع إبراز هذه النتائج فإن التزامنا المسبق بتقديم مقترحات نهدف من خلالها إلى إكمال بعض النواقص، يفرض علينا العمل على الوفاء به وإبراز هذه المقترحات كالآتي:
1) ضرورة تجاوز المشرع المغربي للإجمال المخل الذي طبع صياغة النصوص القانونية المنظمة لحقوق السجين، واستدراك تنظيم حق الخلوة الشرعية للسجين، وذلك حتى لا يفهم من ذلك من طرف أصحاب العقول المتشددة أن المشرع لم يعتد بهذا الحق، وإن كان عكس ذلك الكلام واضح بمقتضى الإشارة الواردة في تصدير النصوص القانونية الصادرة عن وزارة العدل والحريات من جهة، ومن تطبيق هذا الحق في بعض المؤسسات كما تبين ذلك تقارير بعض المؤسسات الحقوقية.
2) اعتماد أسلوب التفصيل في تنظيم أحكام حق الخلوة الشرعية للسجين، بما يعين القائمين على السجون لتطبيقه من جهة، ويصون حق السجين في الاستفادة منه خاصة مع ما يتميز به الموقف والمكان من خصوصية وحساسية بشأن ممارسة الحقوق، وضعف التكوين المرتبط بالجانب الحقوقي لدى أغلب الساهرين على شؤون السجناء.
3) الحرص على التقيد بالضوابط المؤطرة لممارسة حق الخلوة الشرعية للسجين ابتغاء تحقيق الآثار المتوخاة منه.
4) الاهتمام بتدريس ما يتعلق بحقوق الإنسان بالتركيز على حقوق مختلف الفئات، بدءا من الجامعات وانتهاء بمعاهد تكوين المعنيين بتطبيقها، باعتبارها من الأساليب التي تشكل عصب تكريس ثقافة حقوق السجين التي لا نكير لمكانتها.
وبهذا يكون هذا المقال قد أشرف عن الانتهاء بعد أن ظننتُ تحقق غايتي منه، وليس في هذا الانتهاء إتمام لكل الجوانب المتعلقة بموضوع حقوقي متشعب كهذا، فلي أن أقول وبكل موضوعية أنه استعصى علي لعوامل عدة التطرق لكل ما يرتبط به، فلم يبق لي لتجاوز ذلك إلا أن أنبه الباحثين إلى أنه بقيت فيه الكثير من الجوانب الجديرة بالدراسة من قبيل بحث مدى تطبيق هذا الحق في شكل دراسة ميدانية من شأنها كشف المستور واقتراح البدائل لتجاوز كل العيوب .
وبعمة الله تتم الصالحات.
لائحة المراجع:
§        ابن نجيم، " البحر الرائق شرح كنز الدقائق"، الجزء السادس.
§        ابن القيم الجوزية، " روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، الطبعة الثالثة 2003، مطبعة دار الكتب العالمية.
§        ابن كثير، " تفسير القرآن العظيم "، الجزء الأول.
§        ابن فرحون،" تبصيرة الحكام " الجزء الثاني.
§        الدردير، " الشرح الكبير "، الجزء الثالث.
§        الخرشي، " الخرشي على مختصر خليل، الجزء السابع.
§        الحطاب، " مواهب الجليل شرح مختصر خليل " الجزء الخامس.
§        التاج والإكليل، الجزء الثامن.
§        سنن ابن ماجة، كتاب الآداب.
§        صحيح البخاري.
§        سلسلة نصوص قانونية، إصدارات مركز الدراسات والأبحاث الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو، غشت 2011، العدد 15.
§        المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، تقرير الزيارات الميدانية الخاصة بالأوضاع بالسجون، أبريل 2004.
§        موقع المندوبية العامة لإدارة السجون  www.dgapr.gov.ma، زيارة يوم 22- 04- 2015 على الساعة الرابعة مساء.



[1]  - ابن نجيم، " البحر الرائق شرح كنز الدقائق"، الجزء السادس، ص: 308.
  -  الدردير، " الشرح الكبير "، الجزء الثالث، ص: 208
  - الخرشي، " الخرشي على مختصر خليل، الجزء السابع، ص: 56
[2]  - التاج والإكليل، الجزء الثامن، ص: 49
[3]  - الدردير، مرجع سابق، ص: 281
[4]  - ابن فرحون،" تبصيرة الحكام " الجزء الثاني، ص: 205.
[5]  - سورة الإسراء، الأية: 15.
[6]  - سنن ابن ماجة، كتاب الآداب، باب دخول الحمام، حديث رقم: 3750.
[7]  - ابن القيم الجوزية، " روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، الطبعة الثالثة 2003، مطبعة دار الكتب العالمية، ص: 153 وما بعدها.
[8]  - رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث رقم: 5199.
[9]  - ظهير شريف رقم 1.99.200 ، صادر في 13 من جمادى الأولى 1420 (25 أغسطس 1999) بتنفيذ القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4726، وتاريخ 5 جمادى الاخيرة 1420 ( 16 شتنبر 1999 )، ص: 2283.
[10]  - مرسوم رقم 2.00.485، صادر في 06 من شعبان 1421 (03 نوفمبر 2000) تحدد بموجبه كيفية تطبيق القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، منشور بالجريدة الرسمية عدد 4848، وتاريخ 19 شعبان 1421 (16 نوفمبر 2000 )، ص:3029، مغير بالمرسوم رقم 2.04.899، الصادر في 11 من ذي القعدة 1426 (13 ديسمبر2005)، منشور بالجريدة الرسمية عدد: 5406، وتاريخ 22 صفر 1427 ( 23 مارس 2006 )، ص: 792.
[11]  - تنص المادة 46 من القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية على أنه: "يمكن لوزير العدل، أن يمنح لبعض المدانين الذين قضوا نصف العقوبة والمتميزين بحسن سلوكهم إما تلقائيا أو بناء على اقتراح من مدير إدارة السجون، رخصا للخروج لمدة لا تتعدى عشرة أيام، خاصة بمناسبة الأعياد الوطنية والدينية، أو بقصد الحفاظ على الروابط العائلية أو لتهيئ إدماجهم الاجتماعي"  
[12]  - سلسلة نصوص قانونية، غشت 2011، العدد 15، ص: 5.
[13] - المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، تقرير الزيارات الميدانية الخاصة بالأوضاع بالسجون، أبريل 2004، ص: 82.
[14] - من ما ورد بالحرف في قول المندوبية العامة لإدارة السجون: " توفر المندوبية العامة كافة التجهيزات لتمكين المعتقل المتزوج الذي يتميز بحسن السلوك من الخلوة الشرعية التي ليست حقا من الحقوق المنصوص عليها قانونا وفق الشروط المنصوص عليها في اللوائح التنظيمية".
- أنظر موقع المندوبية العامة لإدارة السجون  www.dgapr.gov.ma، زيارة يوم 22- 04- 2015 على الساعة الرابعة مساء.
[15]  - الحطاب، " مواهب الجليل شرح مختصر خليل " الجزء الخامس، ص: 255.
[16]  - تجدر الإشارة إلى أن من الملاحظات التي سجلها تقرير المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ( مرجع سابق، ص: 82 ) هي الحرمان من هذا الحق كتدبير تأديبي مشيرا إلى حالة سجين بالسجن المحلي بالمحمدية وآخر بالسجن المركزي بالقنيطرة.
[17]  - سورة البقرة، الآية: 226.
[18]  - ابن كثير، " تفسير القرآن العظيم "، الجزء الأول، ص: 236.
التصنيف :
هام : هذا الموضوع ضمن تصنيفات المدونة زووم العربية نشكرك للمتابعة . يمكنك نقل الموضوع من المدونة لكن بشرط يجب ذكر المصدر و ذكر رابط الموضوع الاصلي قبل نقل أي موضوعالمرجوا زيارة صفحة الخصوصية
نسخ الرابط
نسخ للمواقع

0 التعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المساهمات

المساهمات
contentieux des affaires ( ISSN ) 2508-9293 © 2014-2016