البطلان هو الجزاء المترتب على مخالفة شرط من شروط شرعية العقد الإداري،
ويحظى البطلان بمفهوم عميق ومتميز في القانون الإداري عن القانون المدني، إذ أن
مفهوم الشروط اللازمة لشرعية العقد الإداري هو مفهوم واسع وفضفاض، ويرجع ذلك إلى
تعدد الإجراءات التي يمر بها العقد الإداري ليخرج إلى حيز الوجود، ناهيك عن تجزئة
قواعد الإختصاص وما تملكه الإدارة من سلطة التأثير في مستقبل العقد بإرادتها
المنفردة، ولعل ذلك ما عمق فكرة البطلان في نطاق العقد الإداري.
ولقد اتجهت غالبية الفقه المدني في فرنسا إلى التفرقة بين نوعين من البطلان
هما البطلان المطلق، والبطلان النسبي، بينما اتجه بعض الفقه إلى وجود نوع ثالث من
البطلان هو الانعدام، أما الغالبية فقد شبهت العقد بالجسم فإذا ما أصابه المرض فإن
ذلك يقابل إصابة شرط من شروط شرعية العقد بالعيب أو الخلل وهو ما يجعله مشوبا
بالبطلان النسبي الذي يستلزم دعوى قضائية لمن تقرر البطلان لمصلحته، ويحمى هذا
النوع إما بالإقرار أو الإجازة أو بالتقادم، أما إذا كان ما أصاب الجسم هو الوفاة،
فإن ذلك يقابل ولادة العقد ميتا، حيث تتلاشى شروط تكوينه وتزول كينونته، وهو ما
يعرف بالبطلان المطلق الذي لا يستلزم وجود دعوى قضائية بل يقع بقوة القانون، ويكون
للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولا يحمى بالإجازة.
وإذا كان هذا المعيار يعكس درجة جسامة العيب، وما إذا كان يقتصر على مجرد
المرض، يخل بكفاءة أحد أركان العقد أو يتخذ مبلغا من الجسامة بحيث يؤدي إلى العصف
بأحد أركانه، فإن التطور قد عكس لنا استناد الفقه إلى معيار آخر جديد هو معيار
طبيعة المصلحة محل الحماية، فإذا كانت مصلحة خاصة ترتب على مخالفة القواعد التي
تحميها البطلان النسبي، وإذا كانت تلك القواعد تنصب على حماية مصلحة عامة ترتب على
مخالفتها صيرورة العقد باطلا بطلانا مطلقا.
وحسب مقتضيات المادة 13 من المرسوم المعدل بتاريخ 20 مارس2013(1)المنظم
لشروط وأشكال الصفقات العمومية، أنه من الضروري أن تبرم الصفقات في شكل عقود
مكتوبة وأن تتضمن مجموعة من البيانات منها على وجه الخصوص طريقة إبرام عقد الصفقة
وبيان الأطراف المتعاقدة وموضوع الصفقة والثمن وأجل التنفيذ وتاريخ انتهاء الصفقة
والمصادقة عليها.
غير أن الإدارة قد تلجأ في حالات الضرورة إلى إبرام عقد بالتراضي من أجل
إضافة أشغال أخرى دون التقيد بالشكليات المنصوص عليها بنظام الصفقات لعمومية، وعند
عرض النزاع على القضاء تتمسك ببطلان العقد وانعدامه، أي بصفة عامة تتمسك باختلال
لشروط انعقاده.
ومن المعروف أن إنهاء الرابطة التعاقدية، يكون لها أثر رجعي، حيث يفترض أن
العقد لم يبرم على الإطلاق، فيكون مجردا من كل أثر قانوني، بمعنى أن تعود الأمور
إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، وفي حالة إلغاء العقد، يمكن لنظرية لإثراء بلا سبب
أن تلعب دورا مهما في هذا الصدد، متى تم تنفيذ العقد الملغي بشكل جزئي، حيث يخول
للشريك المتعاقد مع الإدارة الحق في طلب تعويض منها، حيث أنها استفادت من الأعمال
أو من الدراسات المنجزة عن طريقه(2).
إذن ما هو حكم الأعمال التي يقوم بها المتعاقد مع الإدارة خارج نطاق العقد؟
وما مدى جواز مطالبة المتعاقد بقيمتها خصوصا إذا ما عادت بالفائدة والنفع على
الإدارة ؟ وما هو حكم الأعمال المنجزة في حالة تقرير البطلان ؟ وما هو نطاق تطبيق
نظرية الإثراء بلا سبب في حالة البطلان ؟.
و كذلك دور نظرية الإثراء بلا سبب في الحد من الآثار الرجعية المترتبة عن
بطلان العقد الإداري؟.
المبحث الأول: تطبيقات القضاء
الإداري
يعتبر القضاء الإداري قضاء الإجتهادات القضائية اعتبارا للدور الذي يلعبه
كقضاء قانوني يسعى إلى خلق القواعد القانونية في إطار المبادئ العامة للقانون
وقواعد العدل والإنصاف وإحقاق التوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وضمان
حقوق المتعاقد مع الإدارة، لذلك نتساءل هل استطاع أن يجد مخرجا قانونيا للأعمال
الباطلة المنجزة خارج الضوابط القانونية التي تحكم العقود الإدارية وتعويض منجزها
في إطار نظرية الإثراء بلا سبب؟ وللإجابة عن هذا التساؤل سنتطرق في (المطلب الأول)
إلى تطبيقات القضاء الإداري المغربي ثم إلى تطبيقات القضاء الإداري المقارن (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تطبيقات القضاء
الإداري المغربي
إن القضاء الإداري المغربي اعترف وفي حالات معدودة بإمكانية التعويض عن الأعمال
الإضافية المنجزة على أساس الإثراء بلا سبب حيث تبقى هذه الأخيرة هي الحل العادل
لتعويض المقاول عن الأعمال التي نفذها خاصة إذا كان من شأن هذا العمل أن يعود
بالنفع والفائدة لصالح المرفق العام، وأن تثري به الإدارة حيث يتعين عليها والحالة
هذه أن تعوض المقاول عن الإفتقار الحاصل له بمقدار ما أثرت به(3).
وهذا ما أكدته إدارية فاس في حكمها الشهير الذي جاء فيه: "حيث أن عدم
توفر عقد الصفقة على أحد الشروط الجوهرية المنصوص عليها بموجب مرسوم 482-98-2
المؤرخ في 30 دجنبر 1998 يجعله باطلا وغير منتج لأي أثر قانوني ناتج عن العقد
وينأى بالتالي بمثل هذا العقد عن مجال العقود الإدارية والمنازعة القضائية في هذا
الإطار، ومن ثم يجرده من الضمانات التي يخولها للمتقاضي المرسوم المذكور"(4).
وحيث إذا كان الأمر كذلك للعقود المبرمة بين المتعاقدين والتي اختل أحد
شروط انعقادها فالأولى أن يكون من الحتمي استبعاد المرسوم المذكور عند انعدام عنصر
التعاقد من أساسه كما هو الأمر في نازلة الحال.
وأضاف الحكم المذكور أنه اعتبارا لكون إنجاز الأشغال ترتب عنها تحمل المدعي
بنفقات أثبتتها الوثائق المدلى بها وتقرير الخبرة وفي المقابل حققت جهة الإدارة
المنجزة لهذه الأشغال لفائدتها انتفاعا ثابتا، واعتبارا لكون المدعي لم يكن ليقوم
بإنجاز تلك الأشغال إلا بموافقة جهة الإدارة تحت إشراف موظفيها فإن مثل هذه
الوضعية تشكل إثراء لهذه الإدارة على حساب المدعي بما أنفقه في إنجاز تلك الأشغال،
وخلصت في النهاية إلى القول بأنه لا يقضي في إطار مبدأ الإثراء على حساب الغير
إلا برد قيمة تكلفة الأشغال والخدمات
المنجزة مجردة عن أي ربح.
في نفس الإتجاه نجد حكم إدارية وجدة(5) الذي قضى:" بأنه قيام المتعاقد بإنجاز أشغال إضافية يستحق عنها
مقابل القيام بها رغم أن كيفية إبرام الملحق قد تمت دون احترام المسطرة القانونية
الواجبة التطبيق".
كما جاء في حكم لإدارية مكناس(6)مايلي:"أن توافق الطرفين
حول عملية مسح الأشغال الإضافية دون أي تحفظ واعتماد ناتج لهذه العملية من طرف
المدعى عليها وفق ما هو متفق عليه بين الطرفين مما يتعين معه الحكم بقيمة هذه
الأشغال وفق ما حددته الخبرة المنجزة".
فما يلاحظ من خلال هذه الأحكام التي أوردناها أنها تؤسس لحق المتعاقد- الذي
ليس له مرجعية تعاقدية- مع الإدارة في الحصول على التعويض عن إنجاز الأشغال
الإضافية على أساس نظرية الإثراء بلا سبب، وبالتالي فالتأسيس الصحيح هو حق
المتعاقد في طلب التعويض وذلك في إطار المادة الثامنة(7)، من القانون رقم 90/41
المحدث للمحاكم الإدارية.
وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بقولها: "وحيث درج
القضاء الإداري على مستوى المحاكم الإدارية المغربية على أن عدم توفر عقد الصفقة
على أحد الشروط الجوهرية يجعله باطلا وغير منتج لأي أثر قانوني ناتج عن العقد
وينأى بالتالي... هذا العقد عن مجال المنازعة القضائية في إطار العقود الإدارية...
وحيث إنه لما كان الأمر كذلك في هذه النازلة وأمام استبعاد أي مجال للعقد الإداري
بشأن الأشغال المنجزة من طرف المدعي
لفائدة الجماعة المدعى عنها وفي إطار سلطة المحكمة الإدارية في تكييف طلبات الخصوم
وفقا للقانون الواجب التطبيق دون تحريف للوقائع، ولهذه الطلبات ومراعاة لقواعد
القانون العام بهدف تحقيق التوازن بين المصلحة العامة المتمثلة في حماية المال
العام والمصلحة الخاصة المتمثلة في حماية حقوق المتعامل مع الإدارة، واستنادا إلى
مقتضيات الفصل الثامن من القانون رقم 90/41 وأمام تمسك المدعي بمقاله الإفتتاحي
والإضافي للمطالبة بمستحقاته عن الأشغال التي أنجزها لفائدة جهة الإدارة ارتأت
المحكمة تأطير الدعوى ضمن دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات
أشخاص القانون العام"(8).
وهو نفس الموقف الذي تبنته إدارية الرباط حينما قضت "إن القضاء في
سبيل إيجاد حل قانوني لتسوية الوضعية الحسابية لأشغال إضافية أنجزت دون احترام
المساطر التنظيمية الواردة في المجال التعاقدي دأب على محاكمة هذه الأشغال في إطار
مقتضيات الفصل 79 من ق. ل.ع"(9).
وفي هذا الإطار أكدت الغرفة
الإدارية بالمجلس الأعلى(10) على
هذا الرأي المتبنى من طرف المحاكم الإدارية حيث اعتمدت على نظرية الإثراء بلا سبب لتعويض
المقاول على الأشغال الإضافية الخارجة عن القواعد القانونية، إذ أيدت فيه حكم
المحكمة الإدارية بالرباط أعلاه حيث جاء في حيثياته: "لكن حيث أنه بالرجوع
إلى وثائق الملف وإلى فحوى الحكم المستأنف يتضح أن الأشغال المطالب بها قد تم
إنجازها فعلا وهو ما أكده الحكم المستأنف، وأن شكليات ومواصفات إنجاز تلك الأشغال
كما تحدثت عنها النصوص التشريعية والتنظيمية، لا يمكن مواجهة المقاول بها متى كان
حسن النية، ومتى ثبت أن الإدارة أمرت بإنجاز تلك الأشغال في ظروف خاصة ودون الإلتزام
بما تفرضه تلك النصوص ومسؤوليتها في هذا الباب لا غبار عليها، مما تكون معه من
اللازم على الإدارة التي أنجزت الأشغال لفائدتها ووقع تسليمها لها أن تؤدي مقابل
تلك الأشغال ماليا، حتى لا تكون أمام حالة الإثراء بلا سبب على حساب الغير وأن
الحكم المستأنف لما قضى بالإستجابة للطلب ناحيا نفس المنحى المشار إليه أعلاه يكون
واجب التأييد".
وهذا ما أكدت عليه الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى كذلك:" حيث إن
اعتماد الحكم على نظرية الإثراء بلا سبب - بالرغم من عدم اعتمادها من الطالب- تشترط
لقيامها عدم خطأ المتضرر وفي نازلة الحال
فإن الطالب بقبوله القيام بأشغال تفوق قيمتها 100.000 درهم في غياب إبرام صفقة عمومية (حسبما يوجبه الفصل 51 من مرسوم
14/10/1976) يشكل مبدئيا خطأ من جانبه.
حيث قبلت المحكمة النظر في الطلب باعتماد الفصل 79 من ق.ل.ع.، وتمسكها
باختصاص النظر استنادا إلى ذلك و عملا
بالمادة 8 من قانون 90/41، يناقضه
اعتمادها الفصل 75 من ق.ل.ع لتحدد التعويض
عن قيمة الأشغال المنجزة دون أرباح منجزها.
ولم يحقق قضاة المحكمة في الظروف و
الملابسات التي صدر فيها أمر العامل بإنجاز
الأشغال في غياب عقد صفقة عمومية سابق وفي
مدى مساهمة منجز تلك الأشغال بتغاضيه عن إبرام صفقة عمومية
و قبول القيام بتلك الأشغال العمومية التي تستلزم عقد صفقة عمومية
مسبقا عملا بالفصل 51 من مرسوم
14/10/1976"11
فمن خلال هاته الأحكام و القرارات الإدارية المشار إليها أعلاه، يتضح لنا
جليا بأن القضاء الإداري المغربي يعتمد في
العديد من أحكامه على القواعد ونظريات القانون المدني، بالإضافة إلى المادة
الوحيدة في قانون المحاكم الإدارية التي لم تشمل جميع جزيئاته، لذا فالمطلوب
التأسيس لأساس قانوني مخصص لنظام الصفقات لسد هذا الإشكال.
وتجدر الإشارة إلى ملاحظة أخرى فيما يخص موقف قاضي القضاء الشامل من ظاهرة
التعامل في إطار سندات طلب دون مراعاة شرط عدم تجاوز قيمة الأعمال المنجزة مبلغ
مائة ألف (100.000) درهم.
نجد بهذا الصدد حكم إدارية أكادير
الذي قضى " أن عقد توريد ينتج أثره القانوني بمجرد تسليم البضاعة المتفق
عليها مع منح وصل مطبوع بخاتم الإدارة، وبالتالي تصرح المحكمة بالحكم لفائدة
المورد باستحقاق قيمة البضائع المسلمة للإدارة"(12).
والحاصل من ذلك أنه رغم إسهام
قاضي القضاء الشامل في وضع الأسس التأصيلية لمفموم العقود الباطلة، فإنه لم يذهب إلى
حد الحكم ببطلان التصرفات و الأثار المتعلقة بها كجزاء مطابق للإخلال بشكليات إبرام
عقود وصفقات الدولة و لما شكله ذلك من مساس بالنظام العام(13)، وقد أفضى
التوجه العام لقضاء التعويض في هذا المجال إلى مفارقة صارخة، تتجلى في توفير
الحماية لمستحقات نشأت في ظل تصرف غير مشروع بحسب وصف قاضي القضاء الشامل نفسه(14).
والملاحظ من خلال هذا الحكم أن إدارية أكادير لم تكترث بالأسباب الكامنة
وراء تسليم توريدات تفوق قيمتها الحدود القانونية الموجبة لتنظيم المنافسة وإبرام عقد
مكتوب طبقا لنظام صفقات الدولة.
وهذا
ما أكدته الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى إذ اعتبرت بأن غياب شكلية
العقد المكتوب غير ذات أثر على صحة الإلتزام التعاقدي القائم على أساس معايير
العقد الإداري، وعليه فمن خلال هاته الأحكام يبدو أن هناك ضمانات قضائية حقيقية
حمائية يخولها القضاء الإداري للمتعاقدين المستثمرين سواء كانوا مغاربة أم أجانب(15).
وكما جاء على لسان السيد عبد
الرحمان اليوسفي بمناسبة " أعمال المناظرة الوطنية الأولى للإصلاح
الإداري" بأن بإمكان القاضي الإداري أن يوطد اللبنة الأساسية للإستثمار سيما
إذا علمنا أن ضمان الشفافية والفعالية في التعامل مع الصفقات العمومية الكبرى وضبط
مقاييس شفافة وموضوعية لتهذيب حرية التعاقد لدى المسؤولين عن الصفقات العمومية،
والنهوض بثقافة المنافسة التي تضمن تساوي الفرص والحظوظ في حلبة المنافسة الشريفة،
تعد إحدى الآليات الجوهرية لتأهيل المناخ العام للمقاولة والإستثمار(16).
من خلال ما سبق يتضح لنا جليا بأن القضاء الشامل يلعب دور مهم في فرض ضوابط
إبرام الصفقات العمومية بحيث أنه يجوز له إلغاء قرارات جهة الإدارة إذا اعتبرت غير
مشروعة والحكم عليها بتقديم تعويضات عن الأضرار التي يمكن أن تكون قد نتجت عن
القرارات أو الإعلان عن الإجراء الصحيح، بالإضافة إلى ذلك يشهد له بدوره الفعال في
حماية المستثمرين مع الإدارة خصوصا بعد اعتماد نظرية الإثراء بلا سبب في الأشغال
الإضافية، حيث يعتبر اجتهادا خالصا لقاضي القضاء الشاملفي هذا الشأن(17).
وفي سياق التطبيقات القضائية الإدارية المصادفة في مجال صفقات الأشغال
الباطلة يسجل أن القضاء الإداري في معرض تبريره لإلتجاء الأطراف إلى الطريقة
التفاوضية يكتفي بالصبغة الإستعجالية للأشغال موضوع النزاع بدون إبرازه لصور هذا
الإستعجال المملاة من اعتبارات الدفاع عن حوزة التراب الوطني أو أمن السكان أوسلامة
السير الطرقي أو الملاحة الجوية وجمعه في نفس القضايا بين مسؤولية الدولة بناء على
الخطأ والمسؤولية شبه العقدية في تجلياتها المتعلقة بنظرية الإثراء بلا سبب التي
يعد قيامها سببا لاستبعاد المسؤولية الأخرى ومبررا كافيا لاعتمادها في التطبيقات
القضائية الإدارية لما تقدمه من مزايا عملية وكفيلة بدفع الإدارة إلى التطبيق
السليم للقانون في إطار الشفافية وفعالية النفقات العمومية على حد سواء.
المطلب الثاني: تطبيقات القضاء
الإداري المقارن
إن الصلة القائمة بين بطلان
العقد ومباشرة دعوى الإثراء بلا سبب ظهرت بوضوح
في القرار الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي(18)، حيث جاء في هذا القرار أن
الإتفاق المبرم بين الجمعية وإحدى النقابات البلدية بهدف بناء وإدارة دار للمسنين
فوق أرض مستأجرة لمدة طويلة بنظام الحكر.
فضلا عن الإتفاق المتعلق بطرق
الإيجار والمتضمن رهنا عقاريا، تقرر بطلانهما لتعارضهما مع مبادئ نظام الأملاك
العامة ومع ضروريات سير المرفق العام. ونظرا لأن المنشأة الإئتمانية لم يكن في
وسعها إستعادة دينها المستحق من الجمعية التي أصبحت عاجزة وغير قادرة على تنفيذ
الشروط المتفق عليها، فقد سعت المنشأة الإئتمانية إلى إقامة دعوى ضد النقابة
البلدية المالكة للأشغال المقامة فوق أرض الأملاك العامة، وذلك استنادا لبطلان الإتفاق
محل النزاع.
وكان هذا الطلب قد تم قبوله من
حيث المبدأ بسبب أن "العقارات التي شيدتها جمعية" أورولاط" أدرجت بقوة القانون في الذمة
المالية للنقابة المذكورة" وأن الجهة التي شيدت العقارات أسست دعواها على
الإثراء بلا سبب الذي استفادت منه كذلك النقابة التي أصبحت –بدون مقابل مالي-
حائزة لعقارات مشيدة بفضل القروض التي إرتضت أن تمنحها المؤسسة المالية لجمعية
" أورولاط "، والتي طالب
في دعواها بأن تسدد لها النقابة المبالغ التي مازالت مستحقة لها، أو إذا رغبت
النقابة البلدية المذكورة في الحلول محل الجمعية في الإلتزامات الواقعة على عاتقها
من خلال العقد الذي كانت قد أبرمته مع بنك التسليف العقاري.
وحسب قرار آخر لمجلس الدولة
الفرنسي اعتبر فيه أن القواعد القانونية المحددة لكيفية إبرام الصفقات
تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة(19).
ومن هذا المنطلق فإن أية مخالفة
لشروط وأشكال إبرام صفقات الأشغال يؤدي إلى بطلان صفقة الأشغال، وهذا ما أكد عليه
مجلس الدولة حينما اعتبر أن التعاقد بواسطة المسطرة التفاوضية بدلا من طلب العروض
الذي يشترط القانون إبرام الصفقة في إطاره، يعد عملية غير مشروعة (20).
أما عدم حظي صفقة الأشغال
بمصادقة السلطة المختصة، فيؤدي إلى بطلان العقد وهذا ما أكده مجلس الدولة الفرنسي(21)، والملاحظ
من خلال ما سبق أن مجلس الدولة لئن طبق جزاء البطلان على حالة التوقيع على صفقة
الأشغال من طرف سلطة غير مختصة، فإن جانبا من الفقه ومنه "جيز"
اعتبر أن توقيع العقد من طرف سلطة إدارية غير مختصة يجعله عقدا معدوما خلاف "دي
لوبادير" الذي اعتبر مفهوم الإنعدام لا يمكن تطبيقه إلا في الحالات التي
يكون فيها قرار إبرام العقد في الظاهر فقط دون الناحية العملية المتميزة بعدم إتخاذ
أي قرار مستندا إلى قرار لمجلس الدولة الفرنسي(22) إذ اعتبر أن اتخاذ المجلس
الجماعي لقرار بإبرام صفقة وبعدم توقيع رئيس المجلس المذكور على هذه الصفقة التي
فصل فيها المجلس بمداولاته وبالمقابل، فإن التوقيع على العقد من طرف موظف غير
مختص، يجعل البطلان حليف هذا العقد انطلاقا من كون قواعد الإختصاص من النظام العام
ويترتب عن الإخلال بهما بطلان الصفقة المبرمة.
وبتجاوز الخلاف الفقهي القائم
حول الأثر المترتب عن مخالفة صفقة الأشغال لقواعد الإختصاص والذي يؤول في جميع
الأحوال إلى تجريد العقد الباطل من أي أثر قانوني، فإن الملاحظ أن عدم إبرام
الإدارة لأي عقد يدل على أن الرابطة العقدية معدومة حتى لو تم إنجاز أشغال ذات
صبغة عقارية صرفة لفائدة الإدارة.
والـمتتبع للإجتهاد القضائي
الإداري الصادر بشأن صفقات الأشغال الباطلة سيلاحظ أخذه بالقواعد المطبقة على عقود
القانون الخاص إلى حد جعل الفقه الإداري ومنه "بيكنو" يعتبر أن
القاضي الإداري يعتمد على النظريات المذكورة ولا يستبعدها في قضائه، كما تتجلى مع
نظرية البطلان تحديدا إذ على الرغم من اعتبار القضاء الإداري أن القواعد المقررة
لإبرام الصفقات تتعلق بالصالح لعام وكل مخالفة يترتب عنها جزاء البطلان المطلق،
فإنه أوجد حيزا من تطبيقاته لنظرية البطلان النسبي المنصوص عليها في القانون
الخاص، باعتبار أن صفقة الأشغال أيضا عقد مكتوب وعلى غرار عقود القانون المذكور
تقوم على أركان ثلاثة تتمثل في الرضا والسبب والمحل، إذ للمتعاقد الذي لم تكن
إرادته سليمة حق المطالبة بإبطال العقد، أما محل هذا العقد فيجب أن يكون محددا،
تحت طائلة القضاء بإبطال هذا العقد وهذا ما أكده مجلس الدولة (23)، مع
قابلية هاته الحالة المتصلة بمحل العقد، لاحتضان صور أخرى مقترنة بالتغيير الكلي
لمحل الصفقة أو باستبداله بمحل آخر، وفي حالة تخلف مبرر إبرام الصفقة، تطبيق أيضا
نظرية البطلان النسبي التي قضى
فيها مجلس الدولة بإلغاء عقد صفقة لتخلف سبب إبرامها(24).
وإذا كان عقد الصفقة باطلا
نتيجة مخالفته لشروط وأشكال إبرام الصفقات العمومية ونتيجة عدم المصادقة عليه فإن
قواعد العدل و الإنصاف تقتضي بأن لا يحرم منجز تلك الأشغال من التعويض على أساس أمر غير العقد المذكور، في
حالة إذا ما عادت هذه الأشغال بالفائدة والنفع العام على الإدارة (25)، بمعنى
إذا ثبت إنجاز الأعمال الإضافية سواء تم الطعن في قانونيتها أو عدم الطعن فيها فإن
وجوب التعويض يكون ساري المفعول تطبيقا لقاعدة الإثراء بلا سبب(26).
ونجده مجلس الدولة الفرنسي كذلك
يوضح في إحدى قراراته بأن تطبيق نظرية الإثراء بلا سبب رهين بأن تكون الأشغال
المنجزة بمناسبة تنفيذ الصفقة الباطلة غير معترض عليها من طرف الإدارة وأن تعود
عليها بفائدة حقيقية(27).
إذن فالقضاء الفرنسي أقر بهذه النظرية شريطة قيام علاقة مباشرة بين اغتناء
الجهة الإدارية متسلمة تلك الأشغال وافتقار منجز تلك الأشغال.
وما يعمق الإشكال هو مدى جواز تطبيق قواعد القانون المدني في مجال الصفقات
العمومية، علما بأن نظرية الإثراء بلا سبب في ظل القانون المدني تقتضي أن لا يكون
الطرف المفتقر قد ارتكب خطأ معين والحال أن مقيم تلك الأشغال بعقد باطل أو بدون
عقد يكون قد ساهم بخطئه في الإشكال المطروح.
ثم إن ما يلاحظ هو أن التعويض الممنوح على أساس نظرية الإثراء بلا سبب
يعادل فقط مبلغ الإثراء الفعلي الذي حصل عليه المثري دون الربح الذي ضاع منه وبالتالي لا يعوض إلا عن تكلفة
الأشغال.
بل أكثر من ذلك فمجلس الدولة الفرنسي في هذا الشأن لم يكتف بنظرية الإثراء
بلا سبب بل ذهب أيضا إلى تطبيق نظرية المسؤولية الإدارية والخطأ المشترك للإدارة
والمقاولة وكذا نظرية الدفع غير المستحق الواجب استراده(28).
فأما نظرية المسؤولية الإدارية والخطأ المشترك للإدارة والمقاولة تظهر من
خلال قرار لمجلس الدولة الفرنسي الذي أقر بالتعويض عن الأشغال الباطلة في ظل تلك
النظرية وذلك لتغاضي الإدارة عن إبرام صفقة قانونية في ظل القواعد المنظمة لها،
وخطأ المقاول المتمثل في إنجاز تلك الأشغال بدون صفقة، إلا أنه قضى بتخفيض
التعويض بسبب الخطأ المشترك(29).
أما نظرية الدفع غير المستحق
الواجب استرداده نجد تطبيقها في قرار آخر لهذا المجلس(30) الذي قضى بأن احتفاظ
الإدارة بأشغال منجزة في ظل صفقة باطلة بما يترتب عنها مقابل يعد من قبيل دفع غير
المستحق الواجب الإسترداد.
وعليه فإن القضاء الإداري الفرنسي كان له موقف إيجابي بالنسبة للصفقات
الإضافية الخارجة عن القواعد القانونية المنظمة للصفقات العمومية حيث أنه لم يذهب
إلى حد الحكم ببطلان تلك الأشغال الباطلة المخالفة للقانون بل أقر بالتعويض عنها
من خلال اعتماده لقواعد ونظريات القانون المدني.
المبحث الثاني: دور نظرية الإثراء بلا سبب في الحد من الآثار الرجعية
المترتبة عن بطلان العقد الإداري
سوف نتعرض من خلال هذا المبحث إلى
الدور الذي تلعبه نظرية الإثراء بلا سبب علاجا للآثار المترتبة عن رجعية البطلان
في العقد الإداري، على أن نتناول في (المطلب الأول) حالة الرجعية المترتبة على
البطلان ثم في (المطلب الثاني) نطاق تطبيق نظرية الإثراء بلا سبب.
المطلب الأول: حالة الرجعية
المترتبة على البطلان
في حالة ما إذا تقرر بطلان
العقد الإداري فإنه يترتب تلاشي كافة آثاره ولا يقتصر هذا التلاشي على زوال أثر
العقد بالنسبة للمستقبل بل يزول كافة ما رتبه العقد من آثار بالنسبة للماضي، ويعني
ذلك أن للبطلان أثر رجعي وهو ما يعرف بالصفة الرجعية للبطلان وعلى ذلك لا يرتب هذا
العقد أي التزام على عاتق طرفية ولا يصلح كأساس لاستفادة أي من طرفيه بأي حق عقدي.
ويترتب عن هذه الرجعية إلتزام
كل من الطرفين بأن يرد للطرف الآخر - على سبيل التبادل فيما بينهما- ما تلقاه أو
جناه بمقتضى العقد الباطل.
وبعبارة أخرى فمتى كان العقد
باطلا تعين إعادة الطرفين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، ويبدو ذلك بدوره متوازنا ومبدأ
توازن المراكز القانونية، وتستقر القاعدة السابقة كأثر من الأثار المترتبة عن
البطلان المدني، بيد أن القاضي الإداري قد أخذ بها.
والواقع أن الرجعية ترتبط بالطبيعة الكاشفة أو التقريرية لقضاء البطلان،
فقاضي العقد إذ يقرر أن العقد باطل فإنه لا يلغيه، إذ إن قاضي العقد ينتمي للقضاء
الشامل، ولذلك يكون قاضي العقد أقل اهتماما باستنتاج النتائج النظرية لرجعية
البطلان من قاضي الإلغاء ولعل ذلك ما يثير مشكلة كيفية إعادة الحال إلى ما كان
عليه قبل التعاقد.
ويترتب على الأثر الرجعي
للبطلان إشكالية رد الأعمال المنجزة، إذ أن الإلتزام المتبادل بين طرفي العقد بأن
يرد كلاهما للآخر ما تسلمه أو جناه بمقتضى العقد الباطل هو نتيجة منطقية لرجعية
البطلان، فإذا كان العقد لم يدخل بعد إلى حيز التنفيذ، فلا تكون ثمة صعوبة، ولكن
يثور الإشكال عندما يأخذ العقد سبيله إلى حيز التنفيذ، وهنا يفتقر هذا التنفيذ إلى
الأساس العقدي الذي يبرره ويحميه، وتكون الرابطة العقدية قد محيت من الوجود، وزال
بأثر رجعي، ولن يكون أمام الطرفين في تلك الحالة سوى الإلتزام بالرد، وقد يكون ذلك
ممكنا من الناحية النظرية ولكنه قد يكون من الصعوبة بمكان أو من قبيل المستحيل
عملا من الناحية العملية.
حيث يفترض أن العقد لم يبرم على
الإطلاق فيكون مجردا من كل أثر قانوني، بمعنى أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل
التعاقد، وفي هذه الحالة يمكن لنظرية الإثراء بلا سبب أن تلعب دورا مهما في تحقيق
التوازن المختل بين الطرفين.
ولقد أعطى القانون المدني العديد
من الأمثلة بهذا الصدد منها مثل: قيام البائع بتسليم الشيء المبيع للمشتري الذي
دفع الثمن، ثم هلاك الشيء المبيع بعد التسليم، وهنا تكون هناك استحالة في الرد،
وفي إطار العقد الإداري قد يقوم أحد المقاولين بمقتضى عقد باطل بتنفيذ أو إنجاز
أعمال لصالح الإدارة وتكون هذه الأعمال بحسب طبيعتها مما يستحيل رده للمقاول
المنفذ، ولا يستطيع البطلان هنا أن يحمي آثار تلك الأعمال المنفذة. وإزاء استحالة إعادة
الطرفين إلى ما كان عليه قبل التعاقد، لجأ القضاء المدني إلى موازنة تلك الإستحالة
بتعويض الطرف المختل، حيث أشارت محكمة النقض الفرنسية إلى إستحالة رد كل طرف ما
تسلمه إلى الطرف الآخر بسبب طبيعة الأعمال المنفذة، لا يحول دون تقدير قيمة تلك
الأعمال وما حققته من غنم وتعويض الطرف الآخر عنها.
والواقع أن إشكالية رد الأعمال المنفذة أكثر
ظهورا على مستوى العقود الإدارية تلك التي يتم إبرامها على فترات متعاقبة
ومتلاحقة، فقد يبادر المتعاقد مع الإدارة بعقد باطل بتنفيذ أعمال لمصلحة الإدارة
دون أن يحصل على مقابل تلك الأعمال، وهنا تفوق مجلس الدولة الفرنسي على القضاء
المدني ليحقق للطرف المختل نوعا من الحماية مخولا له التعويض عما قام به من أعمال
نافعة لصالح الإدارة مستندا إلى نظرية الإثراء بلا سبب، وهذا هو التوجه الذي سلكته
محكمة الإستئناف الإدارية بمراكش(31)، إذ أثارت إشكالية التعويض
إذا حصل تنفيذ المتعامل مع الإدارة للأعمال المطلوبة منه بمقتضى صفقة باطلة، فهل سيترك
دون تعويض؟.
بالتأكيد لا، حيث يمكن أن
يكون له الحق في التعويض اعتمادا، حسب الحالة، إما على المسؤولية الشبه التعاقدية
أو استنادا إلى المسؤولية التقصيرية للإدارة شريطة تقديم طلب في الموضوع يؤطره حسب
قناعته في إحدى المسؤوليتين المذكورتين أعلاه أو فيهما معا.
المطلب
الثاني: نطاق تطبيق نظرية الإثراء بلا سبب.
لم يعد تطبيق نظرية الإثراء
بلا سبب يكتنفه أي صعوبة لا سيما وأن الرابطة العقدية قد تلاشت وبأثر رجعي مما جعل
التطبيق يتماشى وفقا لما استقرت عليه القواعد العامة بهذا الصدد، حيث اعتراف
القاضي الإداري بحق المقاول في التعويض عما قدمه من أعمال نافعة أثرت جهة الإدارة
في عقد الأشغال العامة والمطالبة بالتعويض لأنها حققت فائدة للإدارة، وفي هذا
الإطار قضى قرار للغرفة الإدارية ما يلي: "بالرجوع إلى وثائق الملف، وإلى
فحوى الحكم المستأنف، والبحث المجرى في القضية من طرف القاضي المقرر، يتضح أن
الأشغال المطالب بأدائها قد تم إنجازها فعلا، وهو ما أكده الحكم المستأنف، وأن
شكليات ومواصفات إنجاز تلك الأشغال كما تتحدث عنها النصوص التشريعية والتنظيمية،
لا يمكن مواجهة المقاول بها متى كان حسن النية، ومتى ثبت أن الإدارة أمرت بإنجاز
تلك الأشغال في ظروف خاصة، ودون الإلتزام بما تفرضه تلك النصوص، ومسؤوليتها في هذا
الباب لا غبار عليها، مما يكون معه من اللازم على الإدارة التي أنجزت الأشغال
لفائدتها ووقع تسليمها لها أن تؤدي مقابل تلك الأشغال ماليا، حتى لا تكون أمام
حالة الإثراء بلا سبب على حساب الغير"(32).
يتبين لنا جليا أن القاضي الإداري قد استخدم
هذه النظرية في الحالات التي تلجأ الإدارة إلى إبرام عقد بالتراضي من أجل تنفيذ
أشغال أو تسليم توريدات أو إضافة أشغال أخرى دون التقيد بالضوابط التي يفرضها
القانون في هذا المجال، وعند عرض النزاع على القضاء الإداري تتمسك الإدارة إما
ببطلان العقد أو انعدامه أو عدم المصادقة عليه وبصفة عامة اختلال لشروط انعقاده،
فكيف تعامل القضاء الإداري المغربي مع هذه الأشكال؟.
لقد ذهب القضاء الإداري(33)، وهو
يبت في الإشكال ويضفي حماية خاصة على المتعاقد مع الإدارة إلى القول بأن عقد
الصفقة وإن لم يضبط باتفاق مكتوب فهو يأخذ أحكام الصفقة الأصلية باعتبارها مرتبطة
به، وهذا ما أكده حكم لإدارية مراكش ما مضمونه استنتج من وثائق الملف كالأوامر
بالخدمة الصادرة عن المهندس وتقارير مكتب الدراسات المكلف بالمشروع وأعمال التمتير
الخاصة بتلك الأشغال قيام المقاولة بأعمال إضافية وقضى لها بالتعويضات المستحقة
دون اشتراط عقد ملحق طبقا لمرسوم 98(34).
ولقد اعترف مجلس الدولة الفرنسي
بدوره بحق الطاعن في التعويض عما قدمه من أعمال نافعة أثرت جهة الإدارة فاعتبر
قيام إحدى البلديات بإبرام عقد عن طريق إتباع أسلوب المناقصة - بالمخالفة للأسلوب
الذي حدده القانون - سببا يجعل العقد مشوبا بالبطلان، ولا يستطيع معه المقاول الذي
ارتبط مع الإدارة بهذا العقد الإستفادة من أي وضع عقدي، ولكن ذلك لا يقدح في حصوله
على مقابل ما قدمه من أعمال في إطار ما حققته تلك الأعمال من منفعة لصالح الإدارة(35)، وإذا
كان القانون المدني قد حرم الطاعن المخالف لقواعد الأخلاق من استرداد ما أداه من
الإلتزامات بمقتضى العقد الباطل عقابا له، فإن القضاء الإداري لم يكن بعيدا عن هذا
المضمار، فقد كان ذلك مسلك مجلس الدولة الفرنسي بصدد أحد أحكامه36 و الذي وتتخلص وقائعها في
أنه إبان الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 وبالمخالفة للقانون الذي يحظر استيراد
بضائع أجنبية إلى فرنسا استورد السيد " أوليـــــــف " وكان يعمل صاحب محل
صابون عدد 540 برميل من الأحماض الذهنية لشحوم حيوانية.
وافقت الإدارة التي رضخت
للأمر الواقع على إبرام عقد يلتزم بمقتضاه المستورد بأن يدفع لخزانة الدولة ضريبة
تعويضية لم يفرضها القانون، إلا أن السيد " أوليــــــــــف" قد طعن أمام مجلس
الدولة مطالبا استرداد المبلغ الذي سدده بمقتضى العقد الباطل، بيد أن مجلس الدولة
رفض التعويض مستندا إلى توافر علم الطاعن بالعيب الذي يشوب العقد الذي قام بتنفيذه
عندما دفع لخزانة الدولة المبلغ المتفق عليه، وإلى أن هذا التنفيذ كان من شأنه
الإخلال بالمساواة الواجبة بين الطاعن وبين المتنافسين الآخرين الذين حرمهم
القانون من الإستيراد.
نفس الإتجاه أكده المجلس(37) إذ أنه إبان الحرب الكورية وبالمخالفة للإتفاقات
التي تحظر إستخدام الأموال المخصصة من السلطات الألمانية لجيوش الإحتلال - في غير
أغراض عمليات الشراء التي تتم في ألمانيا – أراد الجيش الفرنسي الحصول على بعض
التوريدات، التي تستطيع الولايات المتحدة دون غيرها توفيرها. وللتخلص من القيد
المفروض، أبرم سلسلة من العقود الصورية مع
بعض مؤسسات ألمانية قامت بالتوقيع على العقود، على أن تقوم تلك المؤسسات بممارسة
لعبة التمرير، حيث قامت بتمرير العملية ليقوم بالتوريد مورد أمريكي، حل محل الشركات
الألمانية، وعندما التمس المورد من الدولة تسوية التوريدات، التي قام بها، وبالرغم
من بطلان العقد وعدم وجود أية رابطة قانونية تربط بين الإدارة والطاعن، قضى مجلس
الدولة الفرنسي بالتعويض إستنادا للرابطة الفعلية التي تربط المورد بالإدارة
مستندا إلى نظرية الإثراء بلا سبب مادامت الأعمال قد حققت منفعة الإدارة.
ويحرص المجلس على تأكيد استخدام نظرية الإثراء بلا سبب لمصلحة الغير الذي
لا تربطه علاقة بجهة الإدارة، لمحو عدم التوازن الناتج عن بطلان العقد الإداري،
وكان ذلك بصدد حكمه في قضية الجمعية (38)، بالرغم من بطلان العقد
وعدم وجود أي رابطة قانونية بين المصرف والنقابة، إعترف المجلس للأول بالتعويض، إذ
أن العقارات التي شيدتها جمعية " أورولاط " على الأرض التي تخص
النقابة-وفي غياب الإجارة المشروعة-قد دخلت تماما في ذمة النقابة وهو ما يعد إثراء
بلا سبب، حيث إن هذه العقارات قد شيدت بناء على ما منحه المصرف من قروض للجمعية،
وبذلك تكون تلك الأعمال قد أثرت النقابة دون مقابل مالي، وعلى ذلك تحل النقابة محل
الجمعية في الإلتزامات التي تعهدت بها اتجاه المصرف.
ويتبين لنا جليا من خلال هذا
الحكم أن المجلس قد أخذ بفكرة الإثراء غير المباشر الذي يقوم على انتقال القيمة من
ذمة لأخرى عن طريق وسيط، حيث أثرت النقابة على حساب المصرف من جراء ما شيدته
الجمعية من مباني وعقارات، مستخدمة القروض الممنوحة من المصرف.
والواقع أن مجلس الدولة الفرنسي
بتطبيقه لنظرية الإثراء بلا سبب في تلك القضية يكون قد أخذ بوجهة نظر مفوض الحكومة "Genevois" الذي أشار في تقريره إلى
أن النقابة التي أصبحت مالكة للمنشآت التي شيدت على الأرض التي تخصها، يتعين عليها
أن تدفع للمصرف العقاري مقابل الإثراء المعتبر هنا دون سبب نتيجة للتلاشي الرجعي
لأي رابطة عقدية بين النقابة والجمعية المنفذة(39).
[1]-
خصوصا المادة 16 والمادة88 من، م.ص.ع.
[2]- عبد الرؤوف هاشم بسيوني، م.س.، ص: 157.
[3]- إلهام السمغوني، توجهات القضاء الإداري في مجال الصفقات
العمومية، م.س.، ص: 51.
[4]- حكم إدارية فاس عدد 239 صادر بتاريخ 30
أبريل 2002، أورده محمد
الأعرج وعبد الله الركالة الوزاني، "حق التعويض عن الافتقار الناشئ عن إثراء
الإدارة بلا سبب"، م.م.إ.م.ت.، عدد مزدوج57-ـ58، لسنة 2007، ص:95.
[5]- حكــــم إدارية وجدة عدد 315 صادر بتاريخ 7
دجنبر2004، أوردته
إلهام السمغوني، م.س.، ص: 52.
[6]- حكم إدارية مكناس عدد 61 صادر بتاريخ 16
نونبر 2000، أوردته
إلهام السمغوني، م.س.، ص: 53.
[7]- تنص المادة 8 من القانون المنظم للمحاكم الإداية 41/90 على أنه
"تختص المحاكم الإدارية... بالتعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات
أشخاص القانون العام...".
[8]- حكم إدارية الدار البيضاء عدد 139 صادر بتاريخ 9 شتنبر2005، أوردته إلهام
السمغوني، م.س.، ص: 53.
[9]- حكم إدارية الرباط عدد 818 صادر بتاريخ 23 أبريل 2007، أوردته إلهام
السمغوني، م.س.، ص: 54.
[11]- قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عدد 588 صادر بتاريخ
04/07/2007، حكم
منشور من عمل القضاء في المنازعات الإدارية، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية
و القضائية، يوليوز 2010، ص:135/136.
[12]- حكم إدارية أكادير عدد 221/29، صادر بتاريخ 4
أكتوبر1999، أوردته
إلهام السمغوني، م.س.، ص: 55.
[13]- مبدئيا يكون العقد الإداري باطلا كلما تم إبرامه حيادا على
القواعد الجوهرية المرتبطة بالنظام العام،
أيا كانت مرجعيتها بالمنظومة القانونية.
[14]- الجلالي أمزيد، الحماية القانونية و القضائية للمنافسة في صفقات
الدولة، م.م.إ.م.ت.، سلسلة مؤلفات و أعمال جامعية، عدد79، 2000، ص:150.
[15]- قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عدد 904 صادر بتاريخ11 دجنبر 2003، أورده الجلالي أمزيد،
م.س.، ص:152.
[16]- كلمة السيد عبد الرحمان
اليوسفي، بمناسبة أعمال المناظرة الأولى للإصلاح الإداري، المنظمة من طرف الوظيفة
العمومية و الإصلاح الإداري يومي،7و8 ماي 2002، م.م.إ.م.ت.،
سلسلة نصوص و مؤلفات ع.6، 2004، ص:21.
[17]- محمد
الرحماني، منازعات إبرام الصفقات العمومية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون
العام،كليةالعلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية - فاس-، السنة الجامعية 2008/2009، ص:59.
[18]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر
بتاريخ 6 ماي 1985
في قضية جمعية" EUROLA " وبنك التسليف الفرنسي،
أورده منصف الحسناوي، م.س.، ص:111.
[19]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ
9/2/1909 قضية " BARLA "،
أورده محمد صقلي حسيني، "المنازعات العقدية على ضوء الإجتهاد القضائي
الإداري، م.م.إ.، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية ،عدد4، يونيو
2011،. ص: 60.
[20]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 23/9/1979، في قضية" comme de fontenayle fleury "،
أورده محمد صقلي حسيني، م .س.، ص: 61.
[21]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 19/4/1974، قضية " louissegrette
société entreprise " ، أورده
محمد صقلي حسيني، م.س.، ص: 60
.
[22]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ
17/10/1987، قضية " Vuiton "منشور بمجلة القانون الإداري لسنة 1989، أورده
محمد الصقلي حسيني، م.س.، ص:61.
[23]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 9/4/1930، في قضية" channi " منشور
بمجلة Lebon ص: 42، أورده محمد صقلي حسيني،
م.س.، ص: 62.
[24]- قرار مجلس الدولة الفرسي صادر بتاريخ 15/2/1971، في قضية " maritimescie des messageries "، أورده محمد صقلي حسيني، م.س.، ص: 62.
[25]- إلهام السغوني، م.س.، ص: 49.
[26]- مليكة الصروخ، الصفقات العمومية في المغرب (الأشغال،
التوريدات، الخدمات)، الطبعة الأولى 2009، ص: 464.
[27]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر في قضية" ville de cames "، أورده
محمد قصري في مقاله "القاضي الإداري ومنازعات الصفقات العمومية"، مجلة
المعيار، عدد39، 2008 ص: 32.
[28]- إلهام السمغوني، م.س.، ص: 49.
[29]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 21/12/1961، في قضية"
CNE de
chassien"، أورده محمد قصري في مقاله "القاضي الإداري
ومنازعات الصفقات العمومية"، م.س.، ص: 33.
[30]- قرار مجلس الدولة الفرنسي صادر بتاريخ 12/11/1958، قضية "compagne de messageries" أورده نفس الأستاذ السابق في نفس الصفحة.
[31]- بتاريخ
13/1/2010 في الملف رقم 306-7-2009، أورده محمد باهي في مقاله، "المسؤولية
التعاقدية في مجال منازعات الصفقات العمومية "، م.م.إ.، منشورات جمعية نشر
المعلومة القانونية و القضائية، يونيو 2011،ع.4، ص:93.
[32]- قرار الغرفة الإدارية بالمجلس
الأعلى عدد 609 صادر بتاريخ 11 يوليوز2007، أورده محمد الأعرج، نظام العقود
الإدارية والصفقات العمومية وفق قرارات وأحكام القضاء الإداري المغربي، م.س.، ص:
101.
[33]- حكم
إدارية وجدة صادر بتاريخ 24/7/2000 تحت عدد 69/00 ملف رقم 42/98، أورده محمد قصري،
"القاضي الإداري ومنازعات للصفقات العمومية"، م.س.،
ص: 38.
[34]- حكم إدارية مراكش عدد 143 صادر بتاريخ 8/4/2000 ملف رقم 259/3/05، أورده
محمد قصري، "القاضي الإداري ومنازعات للصفقات العمومية"،
م.س.،ص:39.
[35] - C.E. 15 juillet 1959,
sieur Vauzelle, Rec.p: 466 ; A.J.D.A, 1959 p: 267 ;
C.E : 19 avril 1974,
Sté Louissergrette, Rec. Tab, p: 1057
[36]
-C.E. , nov 1921, Savonneries Henri Olive,p :114.in. voir
Abouskina,op.cit,p :270.
[37] - قرار مجلس الولة الفرنسي في قضية "plan- France Reconstruction "، أشار إليها أحمد فتح الله أبو سكينة، م.س.، ص:270.
[38]- قضية "Association
Eurolat-Crédit Foncier De France "مشار إليها سابقا.
[39]- أحمد فتح الله أبو سكينة، م.س.،
ص: 272.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق