"إبطال العقد للمرض طبقا للفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود
–فيروس كورونا المستجد نموذجا-"
من إعداد الطالب محمد الزياني
خريج ماستر القانون والمقاولة بمكناس
لقد كثر الحديث هاته الأيام بكيفية
رهيبة عن مرض كورونا أو "كوفيد 19"، لدرجة أصبحت كل وسائل الإعلام تهلل
به متتبعة كل أحداثه عن كتب، وهو ما دفع جميع الباحثين كل في مجال تخصصه إلى ابداء
آرائهم حوله، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية بل حتى
القانونية، ونحن كباحثين في هذا الشق الأخير بدا لنا أن ندلي بدلونا فيه ونعالج من
خلاله هذا المرض، قراءة قانونية عابرة في ضوء الفصل 54 من قانون الالتزامات
والعقود المغربي.
"الشريعة العامة للقانون
الخاص" أو القانون المدني، ها نحن اليوم عاجزين عن إيجاد حل للمشاكل التي
تثور مراكز الأفراد ووضعهم القانوني من غير العودة المشروطة إلى هذا القانون
الإطار أو الأصل، الذي ارتد حوله الكثير من مناهضي التيار الحداثي، وكفر بمضامينه
البعض الآخر، لدرجة أن هناك من الفقه من شكك في متانة قواعده ومبادئه ولم يتردد
بإيذان أفوله[1]
وهرمه، ولا أدل على ذلك كثرة الندوات التي عقدت وكثرة المقالات والأبحاث التي كتبت
حوله ضربا في مبادئه وتمردا عليه[2]، حتى جزم بعضهم بالاستغناء
عنه لعدم قدرته على مواكبة التطورات المستجدة؛ فما مدى صحة هذا القول إذن ؟
يعتمد قانون الالتزامات والعقود
المغربي -كغيره من القوانين المدنية في جميع أرجاء المعمور- على مجموعة من المبادئ
الأساسية التي تؤطر الالتزام بمفهومه العام، والعقد كمصدر رئيسي له على وجه الخصوص،
ومن أبرز مواضيعه حول هذا الأخير نجد مبدأ سلطان الإرادة الذي تولد عنه مجموعة من
القواعد الأخرى من قبيل قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" ومبدأ
"القوة الملزمة للعقد"[3]، إذ العقد متى نشأ صحيحا
قام مقام القانون بالنسبة لأطرافه، وبما أن الفرد لا يجوز له أن يتحلل من التزام
فرضه القانون، فإنه كذلك لا يجوز للمتعاقد أن يتحلل من التزام أنشأه عندما كان
طرفا فيه[4]، ما لم يقترن بإرادة الطراف
الآخر أو في الحالات المنصوص عليها في القانون[5].
فأمام الوضع المضطرب الذي أصبحنا
نعيشه اليوم، بفعل انتشار وباء يكاد –بشهادة ذوي الشأن من منظمات عالمية وغيرها-
القضاء على النوع البشري، خاصة في زمن كنا مطمئنين فيه ربما إلى عدم وقوع مشاكل من
هذا النوع، بفضل تطور الأبحاث الصيدلية والطبية، إذ لم تتردد منظمة الصحة
العالمية، بفعل حقيقته الفتاكة، بوصفه بالجائحة، وكأنه الموت ذاته لم يفلت منه حتى
الدول الواعية بتقدمها بعدما كانت تفكر في تطوير النوع البشري، فأصاب الدعر في النفس البشرية وأصبح الجميع يتصرف بلا هوادة
حول ممتلكاته ببيعها وايجارها أو هبتها أحيانا...إلى غيرها من التصرفات الناقلة و
غير الناقلة للملكية، فطرح التساؤل حول الحماية التي يوفرها قانون الالتزامات
والعقود لمؤسسة العقد في هذه الحالة، بمعنى هل يستوعب القانون المدني موضوع من هذا
القبيل ومن ثم إجابته عنه بإقرار الحماية اللازمة لهذه الوضعية؟
بداية وقبل الكلام في الجوهر، الذي
هو مدى استيعاب القانون المدني لحالة مرض كورونا، وبالتالي حماية الطرف المتضرر من
العلاقة التعاقدية، أجزم بالقول أن العقد الذي يبرم في ظل ما سبق، يعتبر بلا شك
معيب من الناحية القانونية الصرفة، إذ القوة الملزمة للعقد الذي أقرها الفصل 230
من ق ل ع أقرنها بشرط أساسي وحاسم، ويتعلق
بكون العقد نشأ صحيحا، والصحة تفسر في عمومها وشموليتها، فبالإضافة إلى صحة السبب
والمحل كركنين رئيسيين في العقد ينبغي قبل كل شيء أن تصح "الإرادة" التي
هي عصب التصرف القانوني، أو كما قال في ذلك الفقيه كونو في أطروحته حول مبدأ سلطان
الإرادة "أنا لست ملزما بأي تصرف
قانوني إلا إذا رغبت فيه، وفي الوقت الذي أريد وبالكيفية التي أحبذها"،
فالعقد الذي يفتقد لهذه المقومات يكون معيبا بدون جدال أو نقاش...
لكن إذا سلمنا بصحة هذا الفرض فما
السبيل إذن، أي ما هو أساس الحماية من هذا العيب -أي عيب مرض كوفيد 19- وموقعه من
الفصل 54 من قانون الإلتزامات والعقود ؟
للإجابة عن هذا الإشكال ارتأينا
تقسيم الموضوع إلى مطلبين؛ نخصص المطلب الأول للحديث عن موقع مرض
"كورونا" من الفصل 54 من ق ل ع، ونتناول في المطلب الثاني تقرير-أي
الحكم- إبطال العقد المعيب بمرض كورونا.
المطلب الأول: موقع مرض
"كوفيد 19" من الفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود
لقد أثار الفصل 54 من ق ل ع العديد من النقاشات وأسال حوله الكثير من
المداد في أواسط الفقه، وهو ما كان له بالغ الأثر على الاجتهاد القضائي ببلادنا،
وذلك بالنظر لصياغة الفصل المبهمة من جهة والغامضة من جهة ثانية.
فمن حيث إبهامه، هو مركز هذا الفصل
من نظرية عيوب الرضا كما هي مكرسة في الفصل 39 من ذات القانون وما بعده، حيث انقسم
الفقه حوله بين من اعتبره عيب خاص هو حالة المرض من دون توصيف[6]، وهناك من اعتبره، وهو
الاتجاه الغالب في الفقه[7] وهو ما سار عليه اجتهاد
محكمة النقض أيضا[8]،
أن المشرع أخد في هذا الفصل بنظرية الغبن الاستغلالي كما أخدت بها التشريعات
الحديثة[9] ولنا عودة لهذا النقاش في
المطلب الثاني.
أما من حيث غموضه، هو نص الفصل على
حالات المرض والحالات الأخرى المشابهة، كما لو أنه يحيل في ذلك على أمراض مخصصة
منصوص عليها في القانون، مانحا للقضاء سلطة تقدير ما يمكن أن يماثل هذه الأمراض،
والحال أن القانون خال من أي نص يفيد ذلك، إذ جاء فيه: "أسباب الإبطال
المبنية على حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة متروكة لتقدير القضاة".
وما تمهيدنا هذا بخصوص مدلول الفصل
54 أعلاه، سوى من أجل تيسير الطريق لنا لمحاولة الاجابة عن التساؤل الذي سبق لنا
أن أثرناه في بداية هذه المقالة، ألا وهو موقع مرض "كوفيد 19" المستجد
من الفصل 54 السالف الذكر، فأمام غياب توصيف قانوني دقيق بخصوص حالات المرض
المقصودة منه، حتى يسعفنا القياس، فإنه يكون من الأفيد الوقوف على قول الاجتهاد في
الموضوع، إذ الاجماع حاصل في كون أن حالات المرض المقصودة من نص الفصل 54 من ق ل ع
الأمراض النفسية والعقلية[10] أي الأمراض العصبية المؤثرة
على قوة الإدراك والتمييز، مع ضرورة لفت النظر حول الاختلاف الواقع بين من يدخل
الأمراض العضوية والجسدية[11] ضمن حالات المرض المقصودة
وبين منكرين لها[12].
ولا شك أن مرض "كوفيد
19" يدخل في نطاق الزمرة الثانية من هذه الأمراض، باعتباره يصيب البنية
الجسمانية للفرد ويشل تحركاته، إذ يصيب الجهاز التنفسي للمرء ويفقده مناعته، كما
أن انتشاره في جسم الإنسان يعني عدم قدرة المناعة المكتسبة للشخص على التصدي له
حسب توصيف منظمة الصحة العالمية[13].
غير أن ما آثرنا التنبيه إليه في
هذا الصدد، هو أن طبيعة هذا المرض بالرغم من كونه يصيب الجهاز العضوي للإنسان أي
جسده، إلا أنه مع ذلك له تأثير خطير على الجهاز العصبي للفرد، إذ ما هو الشعور
الذي ينتاب الموبوء بهذا المرض ؟ أليس انتظار حقيقي لآفة الموت ؟ وإذا أجبنا
بالإيجاب عن هذه التساؤلات –وهو الصائب في الواقع- نقول بأن حالة مرض "كورونا"
تدخل في صميم الأمراض المنصوص عليها في الفصل 54 من ق ل ع.
وفي هذا الإطار، فقد سبق للقضاء
المغربي أن قرر في قضايا مشابهة لحاتنا هاته، إبطال التصرفات التي تمت خلال فترة
المرض بالرغم من كونها أمراض عضوية فقط، من قبيل داء فقدان المناعة المكتسبة
(الإيدز) ومرض السرطان والسل[14] وغيرها..
لكن أليس من المنطقي الاعتماد على
الفصل 479 من ق ل ع لتقرير إبطال التصرفات المشوبة بعيب مرض كوفيد 19 ؟ لذلك وجب
التمييز وبشكل مقتضب، بين حالة المرض المنصوص عليها في الفصل 54 وبين مرض الموت
المنصوص عليه في الفصل 479 من ق ل ع.
فالأمراض التي تحسب المشرع المغربي
أن يخصص لها فصل خاص ومستقل في عيوب الرضا (من بينها مرض كوفيد 19 كما تقدم) تختلف
عن المرض المخوف المنصوص عليه في الفصل 479 سواء من حيث نطاق أطرافه أو موضوعه أو
من حيث إجازته.
فمن حيث نطاق الحماية المقررة
للأطراف، فالملاحظ أن نص الفصل 479 يتحدث عن الورثة فقط إذ يقصد بذلك حالة وفاة
المتعاقد المعيبة إرادته بمرض تعقبه الوفاة[15]، في حين يتحدث الفصل 54 عن
التصرف في حد ذاته بغض النظر عن وفاة العاقد من عدمه، وهو ما يعني أن نطاق الحماية
التي يوفرها هذا الفصل الأخير للمتعاقد أوسع بكثير من تلك التي يقررها الفصل 479،
إذ في حالتنا هذه لا يستسيغ التمسك بمقتضيات هذا الفصل الأخير إن هو المريض بكوفيد
19 لم توفيه المنية.
أما من حيث الموضوع، فالملاحظ كذلك
أن الفصل 479، يتحدث عن عقد البيع على وجه التحديد ووجود فرق بين ما يعطيه البائع
وما يأخذه، كما لو أننا أما عيب الغبن المنصوص عليه في الفصلين 55 و56 من ق ل
ع، أما بخصوص الفصل 54 فإنه يفتقد لهذه التوضيحات
وإن كانت محكمة النقض اشترطت ذلك بالرغم من عدم وجود نص ولنا عودة لذلك.
ثم أخيرا من حيث إجازته، حيث تضمن
الفصل 479 من ق ل ع حالتين؛ الحالة التي يعقد فيها المتوفي بمرضه لأحد ورثته، حيث
والحالة هذه تحسبا لأي تحيز أو محاباة قد يسقط فيه الموروث، أحال المشرع بخصوصه
على الأحكام المتعلقة بالإبراء المعقود لأحد الورثة، إذ اشترط فيه إجازتهم جميعا[16]، أما الحالة الثانية
فتتعلق بالبيع المعقود لغير الوارث، فتطبق بشأنه مقتضيات الفصل 345 من ق ل ع
المتعلق بالإبراء الحاصل لغير الورثة، حيث لا يصح إلا في حدود ثلث ما بقي من
التركة بعد سداد الديون بطبيعة الحال، وهو الأمر الذي لا نجده في الفصل 54 من نفس
القانون.
وما التمييز الذي أردنا الوقوف
عليه هنا، إلا من أجل الوقوف على مدى حقيقة الحماية الموفرة للمريض "بكوفيد
19" إذ من المتصور أن يصاب الشخص به ويشفى منه بعدما يكون قد فوت كل أملاكه، إذ
نص البيع المعقود من المريض مرض موته لا يسعفنا في هذه الحالة، ويبقى المرجع
الأساس هو الفصل 54 في عموميته.
المطلب الثاني: تقرير –أي الحكم-
إبطال العقد المعيب بمرض "كوفيد 19"
إنه ولمن المعلوم في المبادئ
العامة للقانون، وقانون الالتزامات والعقود في مقامنا، أنه بني على مبدأ استقرار
المعاملات، فبالرغم من كونه يهدف تنظيم الروابط العقدية بين طرفي العقد، فإنه وضع
قبل كل شيء لحماية النظام العام الاجتماعي من الاضطراب والفوضى في مجال العلاقات
التعاقدية، فما نصيب هذه لقاعدة أي استقرار المعاملات من كوفيد 19 ؟
من هذا المنطلق ذهب جانب من الفقه
المغربي إلى رفض الاعتماد على الفصل 54 من
ق ل ع أصلا، باعتباره يشكل خطرا على المعاملات الجارية للأفراد، لأن السلطة
التقديرية التي يمنها للقاضي من شأنها أن تؤثر بشكل سلبي على مبدأ استقرار
المعاملات[17]،
ومن بينهم الأستاذ محي الدين اسماعيل الذي يرى أن تطبيق الفصل 54 من ق ل ع تهديدا لاستقرار التعامل بين الأفراد،
لأن تقرير عيوب إرادة جديدة بواسطة القضاء من خلال الحالات الأخرى المشابهة للمرض
ووضع شروط لها، قد يعرض التعامل للاهتزاز لأن عيوب الرضا أمور نفسية لا ينبغي أن
يدخل إلى علم القانون...ومن أنصار هذا التوجه كذلك نجد الأستاذ العلوي العبدلاوي[18]، الذي وصف الفصل 54 بكونه
عجيب وخطير في الآن ذاته، فهو عجيب في ذاته وخطير في آثاره، فمن ناحية العجب فيه
فلأنه يترك للقاضي أمرا هاما هو قيام العقد أو بطلانه في حين أنه كان يجب على
المشرع أن يحدد هذا الأمر سلفا حتى يسير الناس في تصرفاتهم على بينة من الأمر، أما
من ناحية الخطورة فهو يؤدي إلى تحكيم القضاة واختلاف أحكامهم في أمر أساسي هو قيام
العقد أو بطلانه[19].
أما الأستاذ مأمون الكزبري[20] مؤسس النظرية الحديثة
للغبن في الفقه المغربي فقد ذهب إلى القول بعدم تطبيق مقتضيات الفصل 54 إلا بعد
تأويله بشكل يتضمن معه نظرية الغبن الاستغلالي، حيث يؤكد أن "النظرية الحديثة
للغبن ترتكز على فكرة الغبن الاستغلالي، والغبن الاستغلالي يقوم على استغلال أحد
المتعاقدين مرض أو ضعف أو حاجة أو طيش المتعاقد الآخر واستجراره إلى التعاقد على
أسس يظهر فيه البون شاسعا بين ما ينشأ للمغبون من حقوق وما يترتب عليه من
التزامات".
والملاحظ من خلال اجتهاد القضاء
ببلادنا خاصة محكمة النقض، أنها تأثرت شديد التأثر بالتوجه المحذر من تطبيق
مقتضيات الفصل 54 من ق ل ع، ذلك أن الاجتهاد أصبح شبه قار بالأخذ بالنظرية الحديثة
للغبن الاستغلالي كما نادى بها الأستاذ الكزبري، وكذا التشديد في تطبيق هذا الفصل
بدريعة حماية استقرار المعاملات.
في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس
الأعلى أن المرض وحده لا يكفي لتقرير الابطال المنصوص عليه في الفصل 54 من ق ل ع،
وإنما لابد من اقتران المرض باعتباره عنصر نفسي أو معنوي يؤثر على الإرادة، بعنصر
آخر وهو العنصر المادي ويتمثل في الفرق الحاصل بين ما يأخذه المريض وبين ما يعطيه[21]، وهو ما يفيد تطبيق نظرية
الغبن الاستغلالي على الفصل 54 من ق ل ع كما هي منصوص عليها في التشريعات الحديثة.
وقبل إبداء الرأي بخصوص هذا التوجه
المستحدث لاجتهاد المجلس الأعلى بالمغرب، ينبغي في البداية الوقوف على حقيقة
النظرية الحديث للغبن الاستغلالي كما أخدت بها التشريعات المدنية الحديثة[22]، فنمثل لها بالفصل 129 من
القانون المدني المصري الذي جاء فيه: "إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا
تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات
المتعاقد الآخر، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر
قد استغل فيه طيشا بينا أو هوى جامحا، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون
أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد..."
إذن فبالقراءة المتمعنة لهذا الفصل
يبدو من دون شك أنه ينص على عنصرين؛ عنصر معنوي يتمثل في الاستغلال لسبب المرض
والعنصر الثاني مادي يتمثل في الفرق بين المتعاقدين، حتى يتسنى قبول المطالبة
بإبطال العقد على أساس هذه النظرية. فهل يستوعب الفصل 54 من ق ل ع المغربي هذه
العناصر؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل يمكن
القول مع أحد الفقه المغربي[23] وعن حق، أن الفصل 54 من ق
ل ع لا ينص على ذلك بكيفية صريحة، كما أن الاستغلال الذي حاول الفقه السابق إدخاله
على الغبن، لنقول بغبن استغلالي، فإن كل العيوب الأخرى فيها استغلال وهو غير
منطقي، وأن أخد القضاء –المجلس الأعلى- بعنصر الاستغلال وكذا عنصر الفرق بين
القيمة الحقيقية والثمن المؤدى هي ميزة تحسب لهم، على اعتبار أن القانون أن يفسر
في شموليته وعموميته، لكن هذا التفسير لا ينبغي أن يؤدي إلى هدر حقوق بعض الناس
على حساب الآخرين.
وبالاعتماد على هذا التوجه الأخير –الذي
تبناه المجلس الأعلى- فإنه وبلا شك سيواجه كل قرار عرض عليه غير متضمن للعناصر
المعلن عنها في نظرية الغبن الاستغلالي بالنقض،
ومن ثم، فبالرغم من التسليم بكون مرض "كوفيد 19" يؤثر في الخلايا
العصبية للشخص[24]،
بما أنه شبيه بمرض –إن لم نقل هو ذاته- الموت، فإنه غير كاف لتقرير إبطال العقد
المبرم خلاله حسب التوجه السابق، وهو ما ينبغي في اعتقادنا العدول عنه وذلك
لسببين:
السبب الأول: ويتعلق بنص الفصل 54 من ق ل ع، إذ
محكمة النقض اعتمدت في تقرير نظرية الغبن الاستغلالي من منطلق هذا النص، وهو ما
شكل توسع خطير في تفسيره، وخروج عن مضمونه الحقيقي وتحميله أكثر مما يحتمل، إذ
الرقابة القضائية للمجلس الأعلى ينبغي أن تؤسس حول ما هو قانوني وليست على السلطة
التقديرية لقضاة الموضوع عند اقتناعهم بإبطال العقد لمرض ما، مادام المشرع لم يقيد
هؤلاء القضاة من ضرورة التوفر على العناصر التي يتدرع بها المجلس الأعلى.
السبب الثاني: ويستمد سنده من روح قاعدة استقرار
المعاملات، إذ هذه الأخيرة باعتبارها تدعيم لمبدأ القوة الملزمة للعقد، لا تتقرر
إلا بعدما ينشأ العقد صحيحا من جميع جوانبه كما تقدم، ومادامت الارادة إذن معيبة
بمرض يؤثر على قوة الادراك والتمييز وفي مقامنا هذا "كوفيد 19" إلا وكان
العقد مشوبا هو الآخر بهذا العيب، ويكون من السائغ إبطاله لمجر هذا السبب...
وقبل الختام تجدر الإشارة إلى أن
دعوى إبطال العقد المعيب بمرض "كوفيد 19" طبقا لمقتضيات الفصل 54 من
قانون الالتزامات والعقود، يجب أن تمارس داخل أجل سنة حسب الفصل 311 من نفس
القانون[25] من تاريخ زوال المرض[26] أو من تاريخ وفاته بالنسبة
لورثته، وفي جميع الأحوال قبل مضي 15 سنة طبقا للفصل 314 من نفس القانون.
والجدير بالذكر كذلك، أنه إذا كانت
دعوى الإبطال تتقادم فإن الدفع بالإبطال سواء بالنسبة للعاقد أو لورثته لا يتقادم،
إذ يسوغ الدفع بالإبطال لمن ترفع عليه دعوى بتنفيذ الاتفاق في جميع الحالات التي
يمكن فيها نقسه أن يباشر دعوى الإبطال مهما مر على ذلك من وقت.
خـــــــاتمة:
وفي الختام لا يسعني سوى التنويه
بقيمة الفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود وموقعه في نظرية عيوب الرضا، باعتباره
سد الفراغ الذي من الممكن أن يعتري هذه الأخيرة بفضل التطورات المجتمعية الحثيثة،
وكونه يشكل أيضا نصا مرنا يسهل تطويعه وتحويره حسب كل حالات المرض المستجدة التي
من شأنها أن تؤثر على الإرادة الحقيقية للمتعاقد- وهو ما استوعبته محاكم الموضوع
وعارضه المجلس الأعلى-، وما الغموض والإبهام المقصودين من المشرع الذين آثرناهم في
بداية هذه المقالة، سوى من أجل مواكبة الفصل للواقع، حيث إن هو فعل العكس -وعدد
أنواع الأمراض المقصودة منه-، فلاشك أننا كنا سنعيب عليه ذلك، لأن النص القانوني
في غالب الأحيان (أقول في الغالب) يجيب على ما هو كائن، وبذلك ما كان للفصل أن
يستوعب حالة مرض "كوفيد 19" لولا فضفاضة مصطلحاته ولغته...
[1] - المعزوز البكاي، بعض مظاهر اضطراب النظرية العامة
للعقد، مقال منشور بمجلة القانون المدني، العدد الثالث 2016 ص 9.
[2]- عبد الوهاب المريني، بعض مظاهر تمرد مدونة التجارة على قانون
ل ع، مداخلة ألقيت بمناسبة الذكرى المئوية لظهير الالتزامات والعقود المغربي، تحت
موضوع التحولات الاقتصادية وانعكاساتها على ظهير الالتزامات والعقود، بكلية العلوم
القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، الرباط، يومي 8 و 9 ماي 2013، مطابع
الرباط نت، 2016، ص 15.
[3]- الكزبري مأمون، نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات
والعقود المغربي، الطبعة الأولى مطابع دار القلم-بيروت، 1972، ص 245 وما بعدها.
[5]- الكثير من المنتقدين لهذا المبدأ يعتبرون ما
يصاغ الآن من قواعد تتدخل فيها الدولة لحماية إما النظام العام الاقتصادي أو
التوجيهي ضربا سافرا لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين، لكن يقفون عند حدود المقطع
الأول من النص، دون الجرأة لمواصلة قراءته حتى النهاية، أقصد عبارة "أو في
الحالات المنصوص عليها في القانون" فالنص الذين نحن بصدده هو من أعطى إمكانية
الخروج عنه.....
[6]- عبد الحق صافي، الوجيز في القانون المدني،
الجزء الأول المصادر الإرادية للإلتزام، العقد والارادة المنفردة، طبعة 2016،
مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص 102.-
محمد شيلح، في مشاكل الفصل 54 من ق
ل ع من حيث تحديد طبيعة عيوب الارادة المنصوص عليها فيه وشروط الابطال المبني
عليها من خلال التعليق على القرار رقم 1625 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 13
يونيو 1983، مقال منشور بمجلة القانون والاقتصاد العدد السابع 1991، ص 122و 124. -
أحمد أدريوش، أثر المرض على عقد البيع، الطبعة الأولى، سنة 1996، ص
[7]- مأمون الكزبري، م س، ص 113.- ادريس العلوي العبدلاوي، نظرية الاستغلال، مقال منشور بمجلة
القضاء والقانون العدد 96، فبراير 1969، ص 419 وما بعدها. الطيب الفصايلي، قانون
الالتزامات والعقود، مصادر الالتزامات، (العقد الارادة المنفردة الاثراء بلا سبب)
ص 29. - أحمد شكري السباعي، نظرية بطلان العقود في القانون المدني المغربي والفقه
الاسلامي والقانون المقارن، الطبعة الأولى، منشورات عكاظ 1987، ص 291-192.
[8]- قرار المجلس الأعلى صادر بتاريخ 4 أبريل 1980 منشور
بمجلة الاشعاع العدد 11، ص 139 وما بعدها. وأيضا قرار عدد 1625 الصادر عن المجلس
الأعلى بتاريخ 13 يونيو 1983 المعلق عليه من طرف الأستاذ محمد شيلح، مرجع سابق.
[9]- المادة 138 من القانون المدني الألماني،
والمادة 21 من قانون الالتزامات والعقود السويسري، والمادة 214 من قانون الموجبات
والعقود اللبناني، المادة 129 من القانون المدني المصري، والمادة 130 من القانون
المدني السوري.
[10]- راجع أيضا أمينة أيت حسين، القانون المدني،
دراسة حديثة للنظرية العامة للإلتزام، مصادر الالتزام، الجزء الأول العقد، الطبعة
الأولى، 2017. عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزامات، الكتاب الأول نظرية العقد،
الطبعة الرابعة، 2015، ص 135.
[11]- من أنصار هذا الاتجاه: عبد الكريم شهبون،
الشافي في شرح قانون الالتزامات والعقود المغربي، مكتبة الرشاد ص 261. وزيد الترجمان، المصادر الارادية للإلتزام وفق
قانون الالتزامات والعقود المغربي، ص 136.
[12]- من المدافعين على هذا التوجه عبد الحق صافي،
مرجع سابق، ص365. وعبد السلام أحميد فيغو، التصرفات الصادرة من المريض مرض الموت،
دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، 2010، ص 76.
[14]- فقد سبق لمحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 28
يناير 1986 أن قضت في قرار لها بإبطال عقد البيع الذي أجراه الهالك لفائدة أحد
ورثته يومين قبل وفاته بمرض السرطان الرؤي، للمزيد من التفصيل راجع فاطمة اوسحاق، بيع
المريض مرض الموت في القانون المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة
وحدة القانون المدني، جامعة الحسن الثاني عين الشق، السنة الجامعية 1998-1999، ص 45 إلى 47.
[15]- والملاحظ أن القانون المغربي لم يعرف مرض
الموت على خلاف بعض التشريعات العربية التي عرفته في نصوص خاصة، منها المشرع
الأردني الذي عرفه في المادة 453 من القانون المدني بأنه: "ذلك المرض الذي
يعجز فيه الانسان عن متابعة أعماله المعتادة ويغلب فيه الهلاك ويموت تلك الحال قبل
مرور السنة.."، أما المشرع اليمني فقد عرفه في المادة 185 من قانون أحواله
الشخصية ب: "مرض الموت المرض الذي يتصل بالوفاة..."
[17]- أنظر في تفاصيل هذا الموقف، أحمد أدريوش، أثر
المرض على عقد البيع، تأملات حول تطبيق القضاء للفصلين 54 و 479 من ظهير ل ع،
1996، مطبعة الأمنية-الرباط، ص 28
[19]- فاطمة اوسحاق، مرج سابق، ص 12.
[21]- قرار عدد 1625 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ
13 يونيو 1983 المعلق عليه من طرف الأستاذ محمد شيلح، مرجع سابق.
[22]- بخصوص التوسع في هذا الموضوع، راجع المرحوم
عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، نظرية الالتزام بوجه
عام، الجزء الأول مصادر الالتزام، دار احياء التراث العربي بيروت- لبنان، ص 357
وما بعدها.
[25]- بالرغم من كون المشرع لم ينص على الفصل 54 من
ق ل ع صراحة، فإنه يمكن إدخاله كذلك بدليل عبارة "في الحالات الأخرى التي
يحددها القانون"...
[26]- لم ينص المشرع على ذلك صراحة، ولكن تستنتج من
القواعد العامة للقانون، إذ أن المريض في هذه الحالة يكون في حكم المحجر عليه، فمن
غير المنطقي أن يبتدأ أجل السنة من يوم ابرام العقد وأن المرض يمكن أن يتجاوز
السنة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق