إشكالية التعددية
المنهجية في البحوث القانونية
كمال منهوش
باحث في سلك الدكتوراه
مختبر الدراسات في الأسرة والطفل
والتوثيق
مقدمة:
إن المجتمعات التي ظهر فيها العلم الحديث هي تلك
التي اعتمدت العلم كمنهج فكري وأسلوب للبحث والتحقق في ظواهر الكون سعيا وراء
الحقيقة.
ومن المعلوم أنه لا يمكن الشروع في القيام بأي
بحث من البحوث الإجتماعية الميدانية منها
والنظرية دون معرفة منهجية البحث في العلوم الإجتماعية والإطلاع على طبيعتها
وأنواعها وفنونها، والإستفادة منها في جمع
وتصنيف وتدوين المعلومات والحقائق التي يهتم بها الباحث أثناء بحثه في
موضوع معين.[1]
وبما
أن العلوم القانونية هي فرع من فروع العلوم الإجتماعية، فهي بذلك تخضع من حيث الدراسة والبحث إلى الأسس والركائز
المعتمدة في مجال البحوث الإجتماعية بصفة عامة.
والمنهجية كمفهوم يقابله في اللغة الفرنسية
مصطلح" Méthodologie"، وهو مصطلح مركب من كلمتين، فالأولى هي "Méthode"، وهي تعني " المنهج"،
والثانية هي "Logie"، وهي تعني "علم".
وبذلك فالمنهجية هي :" عبارة عن ذلك العلم
الذي يعنى بدراسة المناهج، فهي علم المناهج".[2]
ولاشك أن معرفة القواعد المنهجية الخاصة بالبحث
العلمي الأكاديمي في الميدان القانوني تبقى لها الأهمية البالغة في تحقيق جودة
البحث الجامعي، فهي تساعد الباحث على وضع تصور شامل حول خطة البحث، فوظيفتها هي أن
ينشأ لدى الباحث الأسلوب والطريقة المثلى في التعامل مع شتى المواضيع التي يطرحها
الحقل القانوني.
ذلك أن المشكل الحقيقي الذي تعاني منه الأبحاث
العلمية في وقتنا الحاضر يتمثل في بروز جيل جديد من الباحثين يجهل أبسط قواعد
المنهجية القانونية، بل ويستخفون بهذه القواعد ولا يلتزمون بها، ويعتمدون لجهلهم
بهذه القواعد على اجتهاداتهم الخاطئة، وهو ما أصبحت معه معظم البحوث الجامعية
تعتمد النقل الحرفي أو تخلو من الجودة والدقة، ولا تستند إلى تقنيات البحث وشروطه
الضرورية.[3]
وترتبط المنهجية عموما أشد ارتباط بعلم القانون
بمختلف فروعه، ومن تم فالعلوم القانونية تتميز بأنها تستخدم في مجال البحث العديد
من المناهج في البحث الواحد في إطار ما
يصطلح عليه بالتكامل المنهجي.
وانطلاقا مما سبق نخلص إلى أنه في البحوث
العلمية وخاصة القانونية، نوظف مصطلح المنهجية في حال اعتمادنا على مجموعة من
المناهج في إطار ما يصطلح عليه بالتعددية المنهجية التي تبقى من خصوصيات البحث
العلمي القانوني، نظرا لتعدد الظاهرة القانونية في حد ذاتها هذا من جهة، ومن جهة
ثانية نظرا لإرتباط علم القانون بغيره من
العلوم الإجتاعية الأخرى، كعلم التاريخ، والإقتصاد ...إلخ ، و هذا ما يحتم عدم
إمكانية إستخدام منهج علمي وحيد في الباحث الواحد.
ومن هذا المنطلق، جاءت درستنا لموضوع إشكالية
التعددية المنهجية في البحوث القانونية، في محاولة منا للبحث عن أبرز المناهج الكبرى المطبقة في البحوث القانونية والمتفق
عليها بين علماء المناهج، منطلقين من التساؤل الآتي: ماهي أهم المناهج المطبقة
في البحوث العلمية القانونية؟
ولمعالجة الإشكالية ارتأينا اعتماد التقسيم
الثنائي ذو الأصل اللاثني، من خلال تقسيم الموضوع إلى فرعين كالأتي:
الفرع الأول: المناهج الأصلية المطبقة
في البحوث القانونية.
الفرع الثاني: المناهج الفرعية المعتمدة
في البحوث القانونية.
الفرع الأول : المناهج
الأصلية المطبقة في البحوث القانونية.
إن الباحث في العلوم القانونية يجد نفسه مضطرا
لإستخدام مزيج من المناهج العلمية في إطار التكامل المنهجي.
وسنقوم من خلال هذا الفرع بالتركيز على تلك
المناهج الأصيلة المطبقة في البحوث العلمية القانونية والتي لا يمكن الإستغاء عنها
في أي بحث قانوني؛ بحيث نتطرف للمنهجين الإستنباطي و الإستقرائي ( الفقرة الأولى)
ثم المنهج التاريخي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: دور
المنهجين الإستقرائي والإستنباطي في البحوث القانونية.
نناقش
المنهج الإستنباطي (أولا) ثم المنهج الإستقرائي (ثانيا).
أولا- تطبيق المنهج الإستنباطي في
البحث العلمي القانوني.
يعرف المنهج الإستنباطي بأنه:" ذلك الإستدلال التنازلي الذي ينتقل فيه الباحث
من الكل إلى الجزء أو من العام إلى الخاص؛ أي من الدراسة الكلية لظاهرة معينة
وصولا إلى جزئياتها بالإعتماد على قاعدة تحليل كل جزء من أجل الوصول إلى معرفة
يقينية بشأن الظاهرة محل الدراسة والتحليل".[4]
ويقصد بالإستدلال أنه:" البرهان الذي يبدأ
من قضايا مسلم بها ويسير إلى قضايا أخرى تنتج عنها بالضرورة ودون الإلتجاء إلى
التجربة، وهذا السير قد يكون بواسطة القول أو بواسطة الحساب".[5]
وتبعا
لهذا المنهج، فالباحث يستهل بحثه من مسلمات أو نظريات ثم يستنبط منها ما ينطبق على
الجزء المبحوث؛ أي أنه يبدأ بحثه من العام أو الكلي لكي يصل إلى معرفة الخاص أو
الجزئي.
ومن خلال ذلك، يمكن القول أن الإستنباط هو ذلك
الإستدلال التنازلي الذي تكون فيه النتيجة دائما مساوية أو أصغر من مقدماتها، ومن
هنا نخلص أن ما يصدق على الكل في ظل هذا المنهج يصدق على الجزء.
ويعتمد المنهج الإستنباطي كمنهاج علمي على
مجموعة من الأدوات أهمها القياس والتجريب العقلي والتركيب.
*
فالقياس: هو عملية عقلية
منطقية تنطلق من مقدمات مسلم بها أو من مسلمات إلى نتائج افتراضية غير مضمونة
صحتها.
*والتجريب
العقلي: هو يختلف عن المنهج
التجريبي، فالتجريب العقلي في معناه قيام الإنسان في داخل عقله بكل الفروض
والتحقيقات التي يعجز عن القيام بها في الخارج.[6]
* أما
التركيب: فهو عملية عكسية
تبدأ من القضية الصحيحة المعلومة الصحة إلى استخراج النتائج.
وبذلك
فالإستنباط يمر بثلاثة خطوات رئيسية وهي: المقدمة المنطقية الكبرى، والمقدمة
المنطقية الصغرى، ثم النتيجة.[7]
فمثلا:
لو قام "زيد" ببيع عقاره المحفظ "لعمر" بتاريخ 01/01/2017،
ولم يقم هذا الأخير بتقييد البيع بالرسم العقاري، وبعد مرور سنة قام "زيد"
ببيع نفس العقار إلى شخص أخر هو "أحمد" الذي بادر إلى تقييده بالرسم
العقاري بتاريخ 01/01/2018، فالسؤال المطروح هنا هو أي المشتريين تنتقل إليه ملكية
العقار المحفظ المبيع؟
فتطبيق خطوات المنهج الإستنباطي أعلاه يقتضي
منا تحديد المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى
ثم النتيجة.
* فالمقدمة الكبرى هي : تنتقل ملكية العقار المبيع إلى المشتري الذي بادر إلى
تقييد عقد البيع بالرسم العقاري.
* والمقدمة الصغرى هي: عقد البيع الخاص "بعمر" لم يتم تقييده بالرسم
العقاري، وعقد البيع الخاص "بأحمد" تم تقييده بالرسم العقاري.
*أما النتيجة فهي: تنتقل ملكية العقار المحفظ المبيع إلى "أحمد".
فمن خلال هذا المثال نلاحظ أن المقدمة الكبرى هي
عبارة عن مبدأ عام والذي يعتقد بصحته( من المسلمات)، والمقدمة الصغرى هي المبدأ
الخاص أو الظاهرة المبحوثة، والتوصل إلى النتيجة يتم عبر سلسة من القياسات
والمقارنات والتركيب المنطقي بين المقدمتين.
إلا أن مايعاب على هذا المنهج أن النتائج التي
يتم التوصل إليها من خلاله لاتخرج عن حدود المقدمتين الكبرى والصغرى، فإذا بدأ الباحث
بمقدمة غير صحيحة فمن المؤكد أنه سينتهي إلى نتيجة غير صحيحة كذلك.
ثانيا- تطبيق المنهج الإستقرئي في
البحث العلمي القانوني.
يعتبر
المنهج الإستقرائي من أفضل مناهج البحث العلمي، لأنه يعتمد بالأساس على التجربة
والملاحظة العلمية، مما يتيح فرصة عملية لمعرفة الحقائق وسن القوانين عن طريق هذه
التجارب[8]،
وهو ما جعل فقهاء المناهج يطلقون عليه أيضا "المنهج التجريبي".
وينطلق المنهج الإستقرائي من الجزئيات ليصل إلى
الكليات والقواعد العامة، فهو عبارة عن استدلال تصاعدي؛ حيث ينطلق الباحث فيه من
الجزء إلى الكل أو الخاص إلى العام؛ أي من الظاهرة الجزئية ليصل إلى الظاهرة
الكلية[9].
فالمنهج الإستقرائي أو التجريبي بالمعنى المذكور
أعلاه، يعتبر بذلك المنهج المقابل للمنهج الإستدلالي.
ويقوم المنهج الإستقرائي على فكرة مفادها:"
أن الأمور المماثلة تحدث في الظروف المماثلة"، فهو محاولة من الباحث للتحكم
في جميع المتغيرات والعوامل الأساسية المكونة أوالمؤثرة في تكوين الظاهرة،
بإستثناء متغير واحد يقوم الباحث بتطويعه وترويضه أو تغييره بهدف قياس وتحديد
تأثيره في العملية، وهذا يعني أن التجريب ممكن فقط حين يكون بالإمكان ضبط
المتغيرات.[10]
إذن فالباحث الذي يختار المنهج التجريبي في بحثه
يبدأ تجربته بوضع عدة تساؤلات للوصول إلى الحلول والنتائج.
وكمثال على عملية الإستقراء في العلوم
القانونية، أن يقوم الباحث بدراسة علاقة السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية،
وعلاقة السلطة القضائية بالسلطة التشريعية، ثم علاقة السلطة التشريعية بالسلطة
التنفيذية، ومن خلال كل ذلك ليصل إلى تقرير مبدأ الفصل بين السلط كمبدأ ضروري
لنظام الحكم في الدولة.
ففي هذا المثال ينتقل الباحث من دراسته للجزئيات
المتمثلة في السلطات المختلفة في الدولة إلى
تقرير مبدأ كلي متمثل في مبدأ الفصل بين السلطات.
ومما يجب التنبيه له في هذا المقام، هو أن
تطبيق المنهج التجريبي في العلوم القانونية حسب بعض الباحثين يجب التعامل معه بحذر،
وذلك نظرا لخصوصية الظاهرة القانونية، مما
يطرح صعوبة التحكم في العوامل المؤثرة في الظاهرة المدروسة.[11]
الفقرةالثانية: دور المنهج
التاريخي في البحوث القانونية.
يعنى علم التاريخ بدراسة
الحوادث الماضية من أجل فهم الحاضر، ومن تم التنبؤ بالمستقبل، ومن خلال ذلك فإن
الباحث في مجال علم التاريخ يقوم بتحليل الأحداث الماضية وتفسيرها، وذلك بهدف
الوقوف على مضامينها وتفسيرها بصورة علمية تحدد تأثيرها على الواقع الحالي
للمجتمعات، ولاشك أن الفضل يرجع في تسليط الضوء على البحث التاريخي إلى العلامة
ابن خلدون. [12]
ويعرف المنهج التاريخي بأنه:" مجموعة من
الطرائق والتقنيات التي يتبعها الباحث العلمي للوصول إلى الحقيقة التاريخية وإعادة
بناء الماضي بكل دقائقه وتفاصيله كما كان عليه في زمانه ومكانه، وبجميع تفاعلات
الحياة فيه."[13]
ويعتمد هذا المنهج على مصادر يمكن تقسيمها بشكل
مختصر إلى نوعين:
*المصادر
الأصلية: وهي المصادر
المعاصرة للحدث أو الظاهرة، وتشمل الوثائق التاريخية الأصلية أو الأولية إلى
جانبها الأثار التاريخية.[14]
*المصادر
الثانوية: وهي التي يتم
اللجوء إليها عند تعذر الحصول على المصادر الأصلية أو الأولية، وقد تكون المصادر
الثانوية المشتقة أو المنقولة أو المقتبسة من الأصل التاريخي من الدرجة الأولى أو
الدرجة الثانية أو الدرجة الثالثة ...إلخ، وذلك وفق لدرجة قربها أو بعدها من
المصدر الرئيسي الأصلي، وتبعا لتعدد المراجع
الواسطة بينها وبين العدد أو الوثيقة الأصلية.[15]
ويستلزم المنهج التاريخي اتباع جملة من الخطوات
في دراسته للمشكلة؛ حيث يبدأ الباحث
باستشعار المشكلة وتحديدها ووضع الفروض لها وجمع المعلومات والمصادر التاريخية
بشأن البحث العلمي لإثبات تلك الفروض، ثم الوصول إلى النتائج والتعميمات.[16]
وكمثال على ذلك: فإذا قمنا بدراسة أصل القانون
أو بالأحرى تطور حركة التشريع، فلابد من أن نرجع للمصادر التاريخية ونقوم بجمع
المعلومات عن الحضارات القديمة، كالحضارة البابلية والرومانية ...إلخ، ووضع الفروض
حول أية هذه الحضارات عرفت تنظيما قانونيا ثم محاولة إثباتها بالمعلومات والوثائق
المحصل عليها للوصول إلى النتيجة، وهي الجواب حول كيف ظهر التنظيم التشريعي وماهي
حركة تطوراته عبر الحقب الزمنية والحضارات المتعاقبة إلى يومنا هذا.
الفرع الثاني: المناهج الفرعية المعتمدة في البحوث القانونية.
هناك من يعتبر هذه المناهج مجرد أدوات بحث لأنها لا ترقى إلى درجة المنهج العلمي، فالمنهج هو ما يضبط طريقة تفكير الباحث، بينما أدوات البحث هي التي يستعملها الباحث في تنفيذ المنهج الذي يسير عليه في بحثه فهو يستعمل المقارنة بين المجموعة التجريبية والمجموعة الضابطة في المنهج التجريبي، ويستعمل الإحصاء لتنفيذ التجارب في المنهج التجريبي، وكذلك يستعمل المقارنة والإحصاء في البحوث التي تعتمد المنهج التاريخي، ولهذا اعتبرت المناهج الفرعية مجرد أدوات تدخل ضمن منهج من المناهج الأساسية.
هناك من يعتبر هذه المناهج مجرد أدوات بحث لأنها لا ترقى إلى درجة المنهج العلمي، فالمنهج هو ما يضبط طريقة تفكير الباحث، بينما أدوات البحث هي التي يستعملها الباحث في تنفيذ المنهج الذي يسير عليه في بحثه فهو يستعمل المقارنة بين المجموعة التجريبية والمجموعة الضابطة في المنهج التجريبي، ويستعمل الإحصاء لتنفيذ التجارب في المنهج التجريبي، وكذلك يستعمل المقارنة والإحصاء في البحوث التي تعتمد المنهج التاريخي، ولهذا اعتبرت المناهج الفرعية مجرد أدوات تدخل ضمن منهج من المناهج الأساسية.
وفي المقابل، هناك من يعتبرها مناهج علمية
مستقلة، وذلك نظرا لإمكانية قيامها ببحوث خاصة ووفائها بالغرض المطلوب، ومن بين
أهم تلك المناهج نجد المنهج الوصفي والمنهج الإحصائي والمنهج المقارن وكذا المنهج
التحليلي ، بالإضافة المنهج المسحي ومنهج
دراسة الحالة.
غير
أننا سنتعرض للمنهجين المقارن والوصفي( الفقرة الأولى) قبل الحديث عن المنهج
الإحصائي( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: دور المنهجين المقارن والوصفي في البحوث العلمية
القانونية.
نتكلم
(أولا) عن المنهج المقارن قبل أن نعرض للحديث عن المنهج الوصفي(ثانيا).
أولا- المنهج
المقارن وتطبيقاته في البحوث القانونية.
يصلح المنهج المقارن للتطبيق على كافة العلوم
الإجتماعية، ففي رأي "دور كايم" وغيره من علماء الإجتماع أن المنهج
المقارن هو الأداة الأفضل لبحوث الإجتماع.[17]
وتحتل
المقارنة في مجال العلوم القانونية محل التجربة في العلوم الطبيعية، فإذا كانت هذه
الأخيرة تستخدم التجربة وتعتمد عليها في أبحاثها، فإن المقارنة هي البديل في مجال
العلوم القانونية.[18]
ويفيد المنهج المقارن بأنه :" تلك العملية
التي تعتمد على المقارنة في دراسة الظواهر، والتي يتم من خلالها إبراز أوجه الشبه
وأوجه الإختلاف فيما بين ظاهرتين أو أكثر.[19]
ويتبع الباحث في مجال الدرسات المقارنة في الحقل
القانوني الخطوات الأتية:
*القيام بتحديد الظواهر المتجانسة أي المماثلة
وليس الظواهر المتناقضة.
*القيام بجمع المعلومات بواسطة استخدام بعض
أدوات البحث العلمي.
*القيام بعملية التحليل والتصنيف للمعلومات
ومقارنتها.[20]
فالباحث العلمي إذن يلجأ إلى المقارنات مهما كان
المنهج الذي يتبعه، بل إن هدف العلم هو دراسة أوجه التباين والتشابه بين الظواهر،
وتحديد الظروف التي يظهر فيها هذا التباين والتشابه .
فمن خلال ما سبق، يلاحظ أن المنهج المقارن يساعد
الباحث على اكتشاف الخصائص الكلية للظاهرة في ماضيها وحاضرها أو مستقبلها، وذلك عن
طريق المظاهاة وإبراز الصفات المتشابهة وتلك المختلفة بين ظاهرتين أو مؤسستين أو
مجتمعين، وكذا معرفة درجة تطور أو تقهقر الظاهرة عبر الزمن.[21]
وتجري على المستوى العلوم القانونية الكثير من
الأبحاث العلمية التي تستعمل المنهج المقارن، وذلك من خلال مقارنة نظم أو مؤسسات
قانونية مثلا مقارنة النظام القانوني للكفالة الإسلامية بنظام التبني المعمول به
في الدول الغربية، أو مقارنة الأنظمة الدستورية في كل بلد، أو مقارنة مكانة المرأة
في المجتمعات العربية والغربية...إلخ.
ولاشك أنه في الكثير من الأحيان ما تؤدي
الدراسات المقارنة إلى تعديل أو تغيير المنظومة القانونية موضوع البحث والدراسة
المقارناتية بما يتوافق مع التطورات الجديدة .[22]
ثانيا- المنهج الوصفي وتطبيقاته في البحوث القانونية.
يعتبر
المنهج الوصفي هو:" ذلك المنهج الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى جمع الحقائق
والبيانات عن ظاهرة أو موقف معين مع محاولة تفسير هذه الحقائق تفسيرا كافيا".[23]
وتقوم فكرة البحث الوصفي بصفة عامة على أن
الباحث يعمل على الحصول على معلومات دقيقة تصور وقائع الظاهرة المدروسة ومحاولة
تحليلها.[24]
ويظهر من تم، أن هذا المنهج يعتمد على التركيز
الدقيق على الوصف؛ بحيث يصف الباحث ظاهرة معينة استنادا إلى وضعها الحالي، ومن
خلال ذلك يطرح العديد من الأسئلة من قبيل:
* ماهو الوضع الحالي للظاهرة؟
*ماهي العلاقات بين الظاهرة المحددة والظواهر
الأخرى؟
*ماهي النتائج المتوقعة لدراسة هذه الظاهرة؟
وتكون الإجابة عن هذه الأسئلة عن طريق القيام
بعملية جمع الحقائق والبيانات الكمية أوالكيفية عن الظاهرة المدروسة ومحاولة تفسير
هذه الحقائق تفسيرا كافيا.[25]
ولا يعتمد المنهج الوصفي على مجرد وصف الظاهرة
القانونية محل البحث والدراسة فقط، وإنما يتعدى الأمر ذلك إلى اكتشاف الحقائق،
وتفسير العلاقات التي تتصل بينها والقوانين التي تحكمها.[26]
ويشتمل المنهج الوصفي على منهجين تابعين له وهما
منهج الدراسة المسحية ومنهج دراسة الحالة:
* فالمنهج المسحي: يتعتبر أحد مناهج البحوث الوصفية التي تقوم على جمع
وتحليل البيانات عن طريق وحدات من قبيل المقابلة والإستمارة من أجل الحصول على
معلومات من عدد كبير من المعنين بالظاهرة موضوع البحث.[27]
ومن
خلال ذلك يمكن القول أن المنهج المسحي يهدف إلى وصف الظاهرة المدروسة وتشخيصها
وتحليلها وجمع البيانات حولها وتقرير حالتها كما هي في الوقت الراهن، وبالتالي
فالدراسة المسحية تتعلق بالوقت الذي يجري فيه البحث ولا تتعلق بالظاهرة ولا بمستقبلها.
*أما منهج دراسة الحالة: فهو يعنى بدراسة وحدة من وحدات المجتمع دراسة تفصيلية
من مختلف جوانبها من أجل الوصول إلى تعميمات تنطبق على غيرها من الوحدات،[28]
وهو لا يقتصر على جمع المعلومات وتصنيفها، بل يتابع الحالة في مختلف مراحلها،
ويحلل المعلومات المجمعة، وينتهي بوضع تقرير هو عبارة عن النتيجة النهائية للبحث.[29]
وعلى العموم فالمنهج الوصفي يهدف إلى تحقيق جملة
من الأهداف نذكر منها:
*القيام بجمع المعلومات ذات العلاقة بموضع
البحث بطريقة مفصلة.
*القيام بتوضيح العلاقة بين موضوع البحث
والظواهر الأخرى ذات الصلة.
*مقارنة الظاهرة محل الدراسة بالظواهر الأخرى
المحيطة بها.[30]
وخلاصة القول أن المنهج الوصفي هو ذلك الطريقة
العلمية التي يعتمد عليها الباحث العلمي في دراسته لظاهرة معينة وفق خطوات معينة،
ويقوم من خلالها بجمع وتحليل المعطيات والبيانات المتعلقة بالظاهرة محل البحث من
أجل الوصول إلى النتائج العلمية المرتبطة بالظاهرة وتفسيرها للوصول إلى تعميمات.
الفقرة الثانية: دور المنهج الإحصائي في البحوث العلمية القانونية.
إن
المقصود من كلمة إحصاء هو :"مجموعة من القواعد والقوانين التي يتم الإعتماد
عليها من أجل جمع وتنظيم وتلخيص وعرض وتحليل المعلومات أو البيانات التي يتم
الحصول عليها، كما يشمل عمل استنتاجات واتخاذ قرارات ثابتة وصادقة ومعقولة في ضوء
ما سيتم من للبيانات."[31]
وقد يتساءل البعض عن علاقة الإحصاء بمجال العلوم
القانونية، إلا أن الجواب هو أن نطاق
استخدام هذا المنهج أصبح يتسع في العلوم الإجتماعية بصفة عامة، نظرا للصبغة
العلمية التي يضفيها على الدراسات والأبحاث الإجتماعية، فهو يكسبها المصداقية
والموضوعية.[32]
وبذلك
فإن المعنى المألوف لكلمة إحصاء هو عد الأشياء أو حصرها بطريقة علمية يتبعها
الباحث معتمدا في ذلك على خطوات معينة تقوم على جمع المعلومات والبيانات المتعلقة
بالظاهرة المدروسة من أجل الوصول إلى نتائج دقيقة تمكن الباحث من التكهن
بالمستقبل، وغالبا ما يعتمد الإستقراء في تحليل الظاهرة؛ بحيث ينطلق من الجزء إلى
الكل.
فمثلا حين يطلب من الباحث القيام بدراسة ظاهرة
الطلاق أو التطليق في المغرب، فإن ذلك يعني حصر تلك الظاهرة وعدها، وغالبا ما يعبر
عن الظاهرة التي يتم إحصاؤها بالأرقام، وقد تحول تلك الأرقام إلى أشكال أو رسوم بيانية
للإختصار وسهولة الفهم.[33]
ويستعمل
المنهج الإحصائي لدراسة عينة من العينات لكي يمكن التعرف على المجموع الكلي
للموضوع[34]،
لنفرض مثلا أن طالبا أراد أن يقوم بدراسة لمعرفة نسبة الطلبة الذين يواصلون
دراستهم بكلية الحقوق بفاس ويشترون ويقرأون جريدة "الصباح" كل صباح، وكذلك نسبة الذين يشترون ويقرأون
جريدة "الإتحاد
الإشتراكي" كل صباح، ثم التعرف على نسبة الذين يشترون ويقرأون الجريدتين كل
صباح، فيما أنه من المتعذر عليه استجواب حوالي 20000 ألف طالب وطالبة بالكلية،
فإنه يقوم بأخذ عينة ممثلة لجميع الطلبة، ويقوم بتصنيف المعلومات التي حصل عليها
وتحليلها والوصول إلى نتيجة معينة ومعبرة عن واقع الطلبة بالكلية.
فإذا
كان الطالب قد اختار عينة من الطلبة تمثل المجتمع الأصلي لجميع الطلبة بكلية
الحقوق بفاس، فإنه يستطيع أن يستخدم المنهج الإحصائي ويعمم النتائج التي حصل عليها على جميع الطلبة
الذين يواصلون دراستهم بهذه الكلية .
ويقتضي العمل بالمنهج الإحصائي في مجال البحث
العلمي التقيد بالخطوات الأتية:
*تحديد الظاهرة الإجتماعية موضوع البحث
والدراسة.
*جمع البيانات والمعلومات المتعلقة بالظاهرة.
*ترجمة هذه المعطيات في شكل أرقام أو جداول أو
منحنيات بيانية.
*تصنيف تلك المعطيات والقيام بتحليلها انطلاقا
من الجداول أو المنحنيات البيانية.
*وضع الفروض ومحاولة إثباتها.
*الوصول إلى نتائج قابلة للتعميم.[35]
وتجدر
الإشارة إلى أنه رغم أهمية هذا المنهج، إلا أن إمكانية توظيفه
في الميدان القانوني تختلف بإختلاف مواضيع البحث، ومن المجالات التي يستخدم
فيها المنهج الإحصائي نجد مجال القانون الدستوري، وبالضبط مجال عمليات الإنتخابات؛[36]
حيث تعتبر عملية الإحصاء الوسيلة الأولى التي لا يمكن التخلي عنها في إضفاء طابع
الدقة على عملية الإنتخابات، وذلك بوضع جداول وأعمدة بيانية ودوائر نسبية من أجل
معرفة عدد المشاركين، وعدد الأصوات المقبولة والملغاة، ومن أجل معرفة المترشح
الفائز في العملية الإنتخابية.
خاتمة:
لقد
حاولنا من خلال هذا البحث أن نعطي نظرة موجزة عن أهم المناهج التي تقبل التطبيق
على البحوث القانونية في إطار التكامل المنهجي، والتي قسمناها إلى مناهج أساسية
وأخرى فرعية تابعة أو خادمة لها، منبهين إلى أهمية التقييد بقواعد النهجية
القانونية أثناء إعداد البحث العلمي سواء في الميدان الإجتماعي عموما أو في
الميدان القانوني خصوصا، وسواء تعلق الأمر بعروض أو مقالات أو أبحاث جامعية بمختلف
درجاتها، وبالتالي فإن عدم التقيد بالمنهجية القانونية يؤدي في كثير من الأحيان
إلى عدم إخراج البحث إلى حيز الوجود.
[1] - ليلى عبد
الوهاب:"مناهج وطرق البحث الإجتماعي، أوصول ومقدمات"، المكتب الجامعي
الحديث الأزاريظة الإسكندرية، الطبعة 2000،ص:1.
[2] - عمر
اليعقوبي:"محاضرات في المنهجية القانونية"، أعدت لطلبة السداسية الخامسة
مسلك الإجازة الأساسية في القانون، كلية الحقوق فاس، السنة الجامعية
2012-2013،ص:13.
[4] -
عبد القادر قرموش:" مدخل لدراسة منهجية العمل الجامعي"، محاضرات أعدت
لطلبة السداسية الأولى مسلك الإجازة في القانون، كلية الحقوق فاس، السنة الجامعية 2013-2014، ص:109.
[6] -
محمد عمار عوابدي:"مناهج البحث العلمي وتطبيقاتها في ميدان العلوم القانونية
والإدارية"، ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، 1987، ص:128.
[8] -
طلعت همام:"سين وجيم عن مناهج البحث العلمي،" مؤسسة الرسالة، دار عمان
،الأردن ، الطبعة الأولى، ص:203 ، بتصرف.
[10] -ابراهيم
أبراش:"البحث الإجتماعي، قضاياه، مناهجه، إجراءاته"، منشورات كلية
الحقوق مراكش،سلسة الكتب، العدد 10،1994 ،ص:123.
[14] -ليلى
الصباغ:"دراسة في منهجية البحث التاريخي"، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق
جامعة دمشق، السنة 1978-1979،ص:154 ومايليها.
[31] -رحيم يونس كرو العزاوي:"مقدمة
في منهج البحث العلمي،"سلسلة المنهل في العلوم التربوبة، دار دجلة المملكة
الأردنية الهاشمية، الطبعة الأولى1429 هـ/2008 م،ص:178 و179.
[34] -
عمار بوحوثر:" دليل الباحث في المنهحية وكتابة الرسائل الجامعية،"
المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، الطبعة الثانية،ص:32.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق