خصوصيات

المعيار العضوي في تحديد مفهوم القرار الاداري القابل للطعن عن طريق دعوى الالغاء.

المعيار العضوي في تحديد مفهوم القرار الاداري القابل للطعن عن طريق دعوى الالغاء.






أجــلاب رشـــيد.
باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- طنجة.
                                            مقــــدمـــة:     
تظهر أهمية وقيمة دعوى الإلغاء بسبب التجاوز في استعمال السلطة في الحفاظ على حقوق المواطنين وحرياتهم، لأنها تعد أهم ضمانة لاحترام مبدأ الشرعية، فهذه الدعوى تمكن الأفراد من الطعن في كل قرار إداري معيب بأحد عيوب الشرعية سواء الشكلية أو الجوهرية، تشكل بذلك أحسن أنواع الرقابة على الإدارة وأكثرها ضمانا لحقوق المواطنين وهي وسيلة تمكن الطاعن من أن يتجه إلى جهة قضائية لإلغاء قرار إداري غير شرعي. وكما قال الأستاذ الدكتور عبد الله حداد ''هي إذن دعوى قضائية ترفع لأجل المطالبة بإلغاء القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية والمتسمة بعدم الشرعية''.[1]
وفي هذا السياق، تشترط مجموعة من الشروط لقبول دعوى الإلغاء أمام القضاء، فعند رفع دعوى الإلغاء يتصدى القاضي لهذه الدعوى بفحص هذه الشروط قبل أن يفحص موضوع الدعوى نفسها، لا ينتقل إلى البت في موضوع المخالفة إلا بعد أن يتأكد من وجود شروط قبول الدعوى، وهي شروط متعلقة بصاحب الدعوى وهي : شرط الأهلية والمصلحة والصفة وشروط متعلقة بالإجراءات وشرط انعدام الدعوى الموازية، ثم شروط متعلقة بالقرار المطلوب إلغاءه. وسنقتصر في هذه النقطة على هذا الأخير –القرار الإداري- وذلك لارتباطه بموضوع الدراسة، وكذلك حتى لا نبتعد عن موضوع معايير تحديد مفهوم القرار الإداري.
   لقد اختلف الفقهاء في تعريفهم للقرار الإداري؛ فالعميد ''هوريو'' يرى أن القرار الإداري ''هو إعلان عن إرادة الإدارة قصد إحداث أثر قانوني إزاء المخاط به''، كما يعرفه الأستاذ ''فديل'' بأنه ''تصرف قانوني صادر عن الإرادة المنفردة للإدارة قصد تغيير الوضع القانوني عن طريق فرض التزامات أو منح حقوق''، وعرفه الأستاذ ''إسمانAisman '' بأنه ''عمل غير تعاقدي ينظم سلوك الأفراد في المجتمع ويصدر عن سلطة إدارية''، ويأتي الدكتور محمد فؤاد مهنا فيعرف القرار الإداري بأنه ''عمل قانوني من جانب واحد ويصدر عن سلطة إدارية''. وأخيرا، عرفه الدكتور محمد سليمان الطماوي بأنه ''إفصاح عن إرادة ملزمة بقصد إحداث أثر قانوني''.[2]
    ومن هذا المنطلق، يشترط لكي يكون القرار قابلا للطعن بالإلغاء أن يكون صادرا عن سلطة إدارية لكن تثير هذه (أي القرارات الصادرة عن السلطة الإدارية) الكثير من الغموض فأحيانا يستعمل المشرع عبارة '' قرار إداري''، والتي تختلف عن العبارة الأولى حيث وردت في الفصل 23 الفقرة 6 من قانون 41-90 المحدث للمحاكم الإدارية والمتعلقة بالدعوى الموازية[3] وأيضا في الفصل 24 من نفس القانون.[4] الشيء الذي يطرح الكثير من التعقيدات لأن بعض السلطات الإدارية قد تجد نفسها بسبب التزاوج الوظيفي على اتخاذ قرارات ليست إدارية أو لأن بعض القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية لا تعد من القرارات المؤثرة في المركز القانوني لرافع الدعوى.[5]
    تبعا لذلك، فإن القرارات الإدارية يمكن تحديدها من الناحية العضوية (المعيار العضوي)، التي تأخذ بعين الاعتبار صفة صاحب القرار، حيث يتعين أن يصدر القرار الإداري عن الإدارة بصفتها سلطة عامة. فإذا صدر عنها خارج هذه الصفة فإن القرار لا يعتبر قرارا إداريا، وبالتالي، لا يخضع للطعن عن طريق دعوى الإلغاء بسبب التجاوز في استعمال السلطة.
ومن هنا، تظهر لنا أهمية دراسة معيار العضوي-معيار السلطة الادارية- في تحديد مفهوم القرار الإداري القابل للطعن عن طريق دعوى الالغاء . بناء على ذلك، تحاول هذه الدراسة كذلك، مقاربة السؤال التالي: الى اي حد ساهم معيار السلطة الادارية في تحديد مفهوم القرار الاداري القابل للطعن عن طريق دعوى الالغاء؟. على هذا الأساس سيتم اعتماد مستويين أساسيين للتحليل:
-  المستوى الأول: في تحديد مفهوم المعيار العضوي، معيار السلطة الادارية.
-  المستوى الثاني: نطاق تطبيق المعيار العضوي في تحديد مفهوم القرار الاداري. 
المستوى الأول: في تحديد مفهوم المعيار العضوي، معيار السلطة                  الادارية.
تطورت معايير القرار الإداري بتطور الأساس الذي وجد عليه القضاء الإداري، فلما كان هذا الأساس يتمثل في حماية الإدارة من تدخل القضاء العادي في شؤونه ومنعه من عرقلة نشاطها، كان من الطبيعي أن يلجأ مجلس الدولة الفرنسي إلى الأخذ بمعيار عضوي واسع، بمقتضاه يخرج عن اختصاص القضاء العادي كل قرار صادر عن سلطة إدارية مهما كان موضوعه، وتصبح المنازعات المتصلة بهذه القرارات من اختصاص القاضي الإداري. ولحرص مجلس الدولة الفرنسي على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم مع مراعاة مقتضيات الصالح العام ومتطلبات أداء الإدارة لوظيفتها الإدارية، بدأ القضاء في البحث عن معيار موضوعي لا يقوم على أساس شكلي مما أدى إلى ظهور معيار السلطة العامة.[6]
وفي المغرب، كانت الحاجة كذلك إلى وجوب تحديد معيار القرار الإداري منذ إحداث المجلس الأعلى بموجب ظهير 27 شتنبر 1957[7] الذي حدد من بين اختصاصاته البت في طلبات إلغاء القرارات الصادرة عن السلطة الإدارية، ونفس الشيء يقال بخصوص الفصل 32 من القانون الفرنسي الصادر في 31 أكتوبر 1945. من هنا، يمكن القول أنه سواء في المغرب أو في فرنسا، كان المعيار العضوي من المعايير ذات السند التشريعي، لكن إذا كان القضاء الإداري الفرنسي قد تخلى عنه عندما اقتنع بعدم كفايته حيث التجأ في بداية القرن 19 لمعيار السلطة العامة، فإن القضاء الإداري المغربي ظل متشبثا بالمعيار العضوي، وبالاعتماد على المعنى الوظيفي للإدارة أي مجموعة الأنشطة التي تزاولها المؤسسات والهيئات الإدارية مستعملة وسائل وامتيازات القانون العام.[8]
أولا- غياب تحديد قانوني للسلطة الإدارية.
إن القانون الإداري الفرنسي وأيضا المغربي لم يعط أي تحديد لمفهوم السلطة الإدارية، لهذا اتجه الفقه نحو محاولة تحديد هذا المفهوم. ويظهر ذلك،من خلال استقراء مجموعة من النصوص القانونية بدءا بقوانين الثورة: قانون 16-24 غشت 1790، المادة 13 منه تنص على ما يلي: '' تتميز دائما الوظائف القضائية عن الوظائف الإدارية حيث لا يمكن للقضاة أن يتدخلوا بأي شكل من الأشكال في عمليات الجهاز الإداري''.
»Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeurent toujours séparées des fonctions administratives. Les juges ne pourront à peine de forfaiture troubler de quelque manière que sont les opérations des corps administratifs. [9]«
 وأيضا، الفصل 32 من مرسوم 31 يوليوز 1945 الذي كرر حرفيا ما جاء في الفصل 9 من قانون 24 ماي 1872 الذي نص على أن ''مجلس الدولة ينظر في الطعون الرامية إلى إلغاء –بسبب الشطط في استعمال السلطة- القرارات الصادرة عن مختلف السلطات الإدارية''.
»Le conseil d’Etat… statute souverainement sur les recours en annulation pour excès de pouvoir formés contre les actes de diverses autorités administratives«. [10]
 تبعا لذلك، يمكن القول بأن المشرع من خلال المادة 13 من قانون 16-24 غشت 1790، أقر مبدأ فصل السلطات مشيرا فقط إلى عبارة جهاز إداري دون تحديد مفهومها في حين سيستعمل في الفصل 32 من مرسوم 31 يوليوز 1945 عبارة سلطة إدارية لكن دائما دون تحديد لمضمون هذه الأخيرة.
  نفس الشيء نجده على مستوى التشريع المغربي في كل من الفصل الأول من ظهير 1957 المحدث للمجلس الأعلى، وأيضا المادة 3 من قانون 41-90 المحدث المحاكم الإدارية حيث نص المشرع على اختصاص كل من الغرفة الإدارية والمحاكم الإدارية بالبت في دعاوى الإلغاء لتجاوز السلطة ضد القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية، لهذا فإن الإشكال الذي يطرح هل كل القرارات القابلة للإلغاء لتجاوز السلطة هي بالضرورة صادرة عن سلطة إدارية؟
  إن مفهوم الشخص العام مرتبط بمفهوم القرار الإداري أي أن السلطة الإدارية هي تلك التي تتخذ قرارات قابلة للإلغاء بسبب التجاوز في استعمال السلطة، من جهة أخرى فإن السلطة الإدارية تمثل الشخص الإداري حيث يرتبط مفهوم السلطة الإدارية بشكل وثيق بمفهوم الشخص العام.
 إن مثل هذا التوجه يجعلنا نتساءل هل يكفي الاستناد فقط على المضمون السطحي للنص ؟ فهل هذه النصوص القانونية تشير إلى ضرورة الاعتماد على المعيار العضوي لتحديد مفهوم القرار الإداري ؟
 إن الواقع العملي للاجتهاد القضائي بالمغرب ذهب في هذا الاتجاه يتأكد فقط ما إذا كانت السلطة التي اتخذت القرار المطعون فيه بدعوى الإلغاء لتجاوز السلطة، تعتبر سلطة إدارية بغض النظر عما إذا كان القرار قد اتخذ تطبيقا لقواعد القانون الخاص أو القانون العام،[11]  لعل هذا الغموض وهذا الصمت من طرف المشرع فسح المجال للفقه لمحاولة تحديد هذا المفهوم.
ثانيا: النقاش الفقهي حول تحديد مفهوم السلطة الإدارية.
    إن مفهوم السلطة الإدارية المـراد تحديـده هنا يرادف باللغة الفرنسية ''Autorité administrative''التي تـدل علـى السلطـات القانونيـة التي تتمتع بها أجهزة الدولة والأشخاص الذين يقومون بإدارة وتسيير هذه الأجهزة، وتدل أيضا على السلطة الإدارية المركزية واللامركزية. وهنا يقصد بالسلط الإدارية بمعناها الضيق أو بالمعنى القانوني أي''Autorité administrative''.[12] ولا يراد هنا تحديد السلطة الإدارية بمعناه ''Pouvoir administratif'' التي تعني ''القدرة القانونية والفعلية للتدخل داخل جماعة معينة''.[13]ويختلف مفهوم السلطة الإدارية عن مفهوم السلطات العامة ''pouvoir public'' التي تعني السلطات الدستورية الثلاث: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية والسلطة القضائية.[14]
   إن هذا التعريف يحمل في طياته البعد المحدود لمفهوم السلطة الإدارية حين تقتصر سلطة اتخاذ القرار على صنف من الموظفين دون باقي العاملين في المرفق، وهو التوجه الذي سار عليه قاضي الإلغاء المغربي حيث أقرت المحكمة الإدارية بالرباط في قضية ''عبد الجليل فنيش'' ضد بنك المغرب حيث اعتبرت أن ''والي بنك المغرب يعين بمقتضى ظهير شريف ويتولى إدارة وتسيير مرفق عام اقتصادي تابع للدولة مما يجعله سلطة إدارية وتكون قراراته بالتالي خاضعة للطعن فيها عن طريق دعوى الإلغاء بقطع النظر عن خضوع المقرر الصادر عنه لأحكام القانون العام أو القانون الخاص''.[15]
   أما بالنسبة للفقه المغربي، فلا نجد أي تعريف للسلطة الإدارية باستثناء ما قيل حول مفهوم رجل السلطة (القائد) الذي أضفى عليه المجلس الأعلى طابع سلطة إدارية من خلال القرار الصادر في 21 ماي 1960 في قضية ''لحسن بن عبد المالك السوسي''.[16]
   إن ما يمكن ملاحظته من خلال هذا القرار هو أنه في حقيقة الأمر لا يحمل أي عنصر من العناصر المحددة للسلطة الإدارية بل عمل فقط على التمييز بين السلطة الإدارية من جهة والسلطة القضائية من جهة ثانية حيث جاء في قرار المجلس الأعلى '' إذا كان المقرر المتخذ من طرف القائد صادرا في خصومة نشأت بين أفراد وهي من اختصاص السلطة القضائية...''.[17] وبذلك، قيل أن ''رجل السلطة يمكن تحديده كرمز للدولة وللسلطة التنفيذية على مستوى مختلف الجهات الترابية الإدارية للبلاد، بهذا المعنى يعتبر الأمين للسلطة العامة له حق التدخل لإنجاز وإتمام أعمال الإدارة العامة في فرض الرقابة السياسية والحفاظ على النظام العام''.[18]
 لكن الإشكال الحقيقي الذي يطرح هل بالضرورة لا يتم قبول دعوى الإلغاء إلا ضد قرارات صادرة عن سلطات إدارية، إن هذا التعميم مرفوض إذ أن السلطة الإدارية، حين نشير إليها كشخص معنوي عام فماذا يمكن القول على ضوء التغيرات الجديدة والتي انعكست على مفهوم الشخص العام نفسه، وبالتالي أدت إلى تطور مفهوم السلطة الإدارية.
المستوى الثاني: نطاق تطبيق المعيار العضوي في تحديد مفهوم القرار الاداري
إن المعيار العضوي –معيار السلطة الإدارية- رغم ما عرفه من انتقادات من جراء غياب محددات قانونية تحدد مفهومه، أو من خلال تطور نظرية الهيئات الخاصة، وإمكانية إصدار قرارات إدارية، فإنه لا يمكن الإعلان عن وفاة المعيار العضوي، لسبب بسيط كونه يتميز بالبساطة والوضوح، فقد احتفظ دائما من خلال مجموعة من الاجتهادات على أهميته كمعيار للتمييز بين الاختصاصيين القضائيين –العادي والإداري-، حيث أن وجود الإدارة طرفا في العلاقة كسلطة يمكن أن يعتبر مؤشرا أو سببا لاحتمال تطبيق قواعد القانون الإداري وبالتالي اعتبار القضاء الإداري هو المختص في النزاعات التي قد تحدث في النتائج المترتبة عن تلك العلاقة. وأن أي غياب للإدارة من العلاقة يحتمل في الغالب استبعاد اختصاص القضاء الإداري.[19]
    وعلى هذا الأساس، فاللجوء إلى المعيار العضوي فيه حماية للضمانات الأساسية أولهما احترام مبدأ الفصل بين السلطات وثانيهما حماية الحريات الاقتصادية حيث لا يمكن للقاضي الإداري أن يتدخل في النزاعات الخاصة التي يطبعها الطابع التجاري والصناعي.
أولا-احترام مبدأ الفصل بين السلط.
     وبتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات حتى يكون القرار إداريا يجب أن يصدر عن سلطة إدارية، كما أنه وكقاعدة عامة لا يصدر عن السلطة التشريعية أو السلطة القضائية. لهذا، وتبعا لهذا التقسيم، ينبغي من جهة التمييز بين القرارات الإدارية والتشريعية والتمييز بين القرارات الإدارية والقضائية من جهة ثانية.
   فبالنسبة للتمييز الأول، وتطبيقا للمعيار العضوي يمكن القول : لا تعد القوانين قرارات إدارية لعدم اتصافها بالصفة الإدارية، لأنها لا تصدر عن سلطة إدارية، وإنما تصدر عن السلطة التشريعية حسب مسطرة خاصة، يجعلها تتمتع بقوة قانونية سامية تعفيها من الإلغاء عن طريق الدعوى القضائية. كما لا تعتبر قرارات إدارية القرارات المتخذة من قبل الهيئات التابعة للبرلمان، على نحو القرارات التي يتخذها رئيس المجلسين في مجال تسيير المجلس أو في علاقات البرلمان مع الحكومة.[20]وقد استند مجلس الدولة الفرنسي على المعيار العضوي بخصوص تمييز هذه الأعمال في قرار VOUTRES 26 ماي 1950.[21]
    ويمكن ربط هذا النوع من القرارات أيضا بالقرارات القضائية، فحماية لاستقلالية القضاء يتم الاعتماد على المعيار العضوي للتمييز بين القرارات الإدارية والقرارات القضائية مثلا، إن النزاعات المتعلقة بمرفق عام للقضاء الخاص فإن القاضي العادي هو المختص، إذ يتم التمييز في هذا الإطار بين النزاعات المتعلقة بالعدالة، فما يتعلق بالتسيير يختص به القاضي الإداري، وما يتعلق بالوظيفة القضائية فإن القاضي العادي هو المختص، هذا ما ذهبت إليه محكمة التنازع في الحكم الصادر عنها في 27 نونبر 1952 يتعلق بتعيين مأمور قضائي Cayenne والي مدينة Guyane، أقرت المحكمة أن ''النزاعات المتعلقة بمرفق العدالة تخضع لاختصاص القضاء الإداري أو لاختصاص المحاكم العادية حسب ما إذا تعلقت القضية بتنظيم وتسيير مرفق العدالة أو تتعلق بالنشاط القضائي''.[22]
   على العموم، لا يمكن الجزم بأنه احتراما لمبدأ فصل السلط لا يمكن اعتبار أعمال السلطة القضائية أعمالا إدارية ولا يمكن بالتالي أن ترفع ضدها دعوى الإلغاء، إذ يجب أن نشير أنه ليست جميع أعمال السلطة القضائية من قبيل الأحكام بل هناك من الأعمال التي تصدر عن هذه السلطة وتدخل موضوعيا ضمن الأعمال الإدارية، فمثلا قرارات الهيئات المهنية، فحين تبت هذه الهيئات في قضايا التسجيل في لوائحها تتصرف كسلطات إدارية، وحين تصدر قرارات تأديبية فهي عندئذ تتصرف كسلطة قضائية، وإن كان الأمر كما يقول الدكتور محمد يحيا ليست بهذه البساطة والسهولة دائما، وفي هذا قضت الغرفة الإدارية في حكمها بتاريخ 20 دجنبر 1960 أن ''القرار التأديبي الذي اقترحه المجلس الوطني المؤقت للصيادلة والمصادق عليه من طرف الأمانة العامة للحكومة قابل لدعوى الشطط في استعمال السلطة...''[23]  فقط عندما تصادق عليه الأمانة العامة للحكومة (لأن هذه الأخيرة سلطة إدارية...).
     أما بالنسبة للأعمال التشريعية، فالبعض منها تعتبر قرارات إدارية ويتعلق الأمر بالقرارات التي تصدر عن المجالس البرلمانية كالتدابير التي تخص موظفي البرلمان. من جهة أخرى، يجد المعيار العضوي تطبيقا موسعا له في مجال الأنشطة الخاصة في إطار الحريات الاقتصادية.
ثانيا: حماية الحريات الاقتصادية.
    يطبق المعيار العضوي بشكل موسع في إطار حماية الحريات الاقتصادية بحيث أن القرارات الصادرة عن الشركات والمرافق التجارية والصناعية لا تعتبر إدارية لأنها لم تصدر عن سلطة إدارية، هذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالرباط في الحكم الصادر عنها في 18 مارس 1999 في قضية السيد محمد الصافي ضد شركة اتصالات المغرب، "لئن كان من بين اختصاصات المحاكم الإدارية النظر في طلبات تسوية الوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة طبقا للمادة 8 من القانون رقم 90/41 فإن شركة اتصالات المغرب ''شركة مساهمة'' تعتبر مؤسسة خاصة وأن العاملين بها يخضعون في علاقة الشغل التي تربطهم معها لقواعد القانون الخاص، مما يجعل المحكمة الإدارية غير مختصة بالنظر في طلبات تسوية وضعيتهم الفردية''.[24]
    ومن خلال مجموعة من القرارات، أعلن مجلس الدولة الفرنسي، انسياقه في الاتجاه الذي سارت عليه أطروحات مجموعة من الفقهاء التي دافعت عن ضرورة التشبث بالمعيار العضوي كمحدد لمجال اختصاص القاضي الإداري وكذا محدد لطبيعة القرارات القابلة للطعن بالإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة وبشكل غير صريح دافعت عن نمط الدولة الليبرالية الصارمة، لذلك كانت مهمة الدولة عند أغلب الفقهاء الليبراليين، تنحصر في إشباع الحاجات العامة للأفراد، والحفاظ على النظام العام، فهي عبارة عن بنية فوقية لا تتدخل في الميدان الاقتصادي، هذا الأخير الذي يجب أن يبقى محتكرا من لدن الخواص، يتنافسون فيما بينهم لتحقيق مصالحهم الخاصة، فالدولة لا يمكنها أن تكون مقاولا، بل عليها أن تتخلى عن هذه الوظيفة للمبادرة الخاصة، ويمنع عليها نتيجة لذلك مراقبة النشاط الاقتصادي.[25]
   من خلال النمط الليبرالي للدولة، تضع الدولة من خلاله حدودا فاصلة بين مجال تدخلها ومجال تحرك الأفراد، ومن الأحكام التي تؤكد الأخذ بالمعيار العضوي، قرار أحمد عبد الله 27 أبريل 1945 وبوخبزة 16 أبريل 1946 واللذان صرح من خلالهما مجلس الدولة الفرنسي أن مدير الشركة التونسية للسكك الحديدية عندما رفض إعادة إدماج الطاعنين في عملهما لم يتخذ قراراته باعتباره سلطة إدارية بل تصرف كمدير لشركة خاصة وأيضا حكم الشركة العامة للاستيراد الصادر عن مجلس الدولة في 25 يونيو 1948 الذي دفع بعدم اختصاصه بالنظر في النزاع الناشئ بين الشركة ومستخدميها رغم أنها تدبر نشاط مرفق عام، وقرار Armould 8 دجنبر 1950 نفى مجلس الدولة طبيعة السلطة الإدارية بالنسبة للمجلس الذي تتكون منه الشركة، إذن فطبيعة مصدر القرار هي التي أخذت بعين الاعتبار في مجموع هذه الحالات حيث رفض مجلس الدولة إضفاء صفة سلطة إدارية على أشخاص خاصة تمارس أنشطة تجارية محضة احتراما لمبدأ حماية الحرية الاقتصادية الذي يستدعي ألا يتدخل القضاء الإداري في هذه الأنشطة وبالتالي يكون القاضي العادي هو الأكثر اختصاصا للبت في مثل هذه النزاعات.
    أما القاضي الإداري، فلا يتدخل إلا عندما يتعلق النزاع بتنظيم المرفق العام الصناعي والتجاري وهو ما أكدته محكمة التنازع في حكم Barbier 15 يناير 1968 المتعلق بشركة طيران فرنسا حيث صدر قرار عن الشركة يقضي بمنع زواج مضيفات الشركة وقد اعتبرت المحكمة أن القرار يعد قرارا إداريا لكونه يتعلق بتنظيم المرفق، لكن هذا الاعتراف ''لاشوم La chaume'' كان أمرا طبيعيا اقتضاه تنظيم الشركة وتعتبر سلطة التنظيم هذه ضرورية للتسيير ووسيلة لازمة لأداء مهام المرفق العمومي الذي تسهر عليه الشركة المعنية ولا تتعلق بالعلاقات الخارجية لها.[26]
      ويعتبر هذا الحكم من بين الأحكام التي كشفت عن قصور المعيار العضوي لكن هذا لم يمنع القضاء المغربي من تبني المعيار العضوي بشكل قاصر خاصة بالنسبة لمنازعات المؤسسات العمومية كيفما كان نوع نشاطاته ومهما كانت طبيعة القانون الواجب تطبيقه.
ثالثا. قصور المعيار العضوي.
   إن الاقتصار على المعيار العضوي، لتحديد مفهوم القرار الإداري القابل للطعن عن طريق دعوى الإلغاء للتجاوز في استعمال السلطة يؤدي إلى تناقض لا يمكن تجاوزه رغم أن المجلس الأعلى في البداية وبعده المحاكم الإدارية حاولوا تجاوز هذا التناقض عن طريق الدعوى الموازية.
    منذ سنة 1957 وإلى غاية 1966 كان يتبع المجلس الأعلى خطوات القضاء الإداري الفرنسي فكان يشترط شرطين أساسيين لإنعقاد اختصاصه في مجال دعوى الإلغاء، أولا أن يكون القرار يخضع لقواعد القانون العام، حيث استند المجلس الأعلى في هذه الفترة على المعيار المادي، لكن ومنذ قرار العباسي عبد العزيز تبنى المجلس المعيار العضوي لكن بشكل ضمني عندما بت في موضوع الدعوى دون أن يبرر اتجاهه.[27]في حين، شكلت سنة 1977 مرحلة جديدة عبر فيها المجلس الأعلى بوضوح عن المفهوم الجديد للقرار الصادر عن سلطة إدارية من خلال قرار البداوي محمد والصادق المومني السابقي الذكر، إذ في الحالتين معا أعلن المجلس الأعلى على أن الفصل 360 من قانون المسطرة المدنية[28] ... لم يميز بين القرارات التي تخضع للقانون العام وتلك التي تخضع للقانون الخاص، حيث شكل هذا التوجه من جانب المجلس الأعلى، مظهرا من مظاهر انشغاله واهتمامه بتوحيد منازعات كل أعوان الجماعات العمومية، كيفما كانت فئاتهم ودرجاتهم ووضعيتهم القانونية.
 من الواضح أن اللجوء إلى المعيار العضوي طرح عدة إشكاليات متشابكة بالنظر إلى الدور الذي غدت تلعبه المؤسسة العمومية في الميدان الاقتصادي، فاعتمادها على آليات التدبير والتسيير المعمول بها في القطاع الخاص، أصبح يستدعي تطبيق قواعد القانون الخاص على هذه المنازعات،[29] إلى جانب أن تبني المعيار العضوي وحده من طرف المجلس الأعلى أدى إلى إدراج منازعات عادية بطبيعتها ضمن اختصاص قضاء الإلغاء.
                                خاتمـــــــــة:
   خلاصة القول، ومن خلال ما سبق، يمكن القول بأن دور المعيار العضوي-معيار السلطة الادارية-في تحديد مفهوم القرار الإداري القابل للطعن عن طريق دعوى الالغاء، أبان عن محدوديته، وذلك من خلال عدم وضوح المحددات القانونية لمفهوم السلطة الإدارية، نظرا لغياب تحديد قانوني دقيق لمفهوم السلطة الإدارية، وحتى من زاوية الفقه المغربي لا نعثر على أي مفهوم واضح للسلطة الإدارية، هذا من جهة. أما من جهة أخرى، فإن المعيار العضوي –معيار السلطة الإدارية- يحتوي على عيبين متناقضين:
   الأول: أنه واسع أكثر من اللازم بحيث يشمل جميع الأعمال التي تصدر عن مختلف السلطات الإدارية بما فيها الأعمال التي تخضع بحكم طبيعتها لأحكام القانون الخاص.
   الثاني: أنه أضيق أكثر من اللازم لأنه يشمل بعض الأعمال الإدارية بطبيعتها.
    كإشارة في الأخير، يمكن القول أن معيار السلطة الإدارية، يبقي من بين أهم المؤشرات التي ساهمت في تطور مفهوم القرار الإداري بصفة عامة والقرار الإداري بالمغرب بصفة خاصة.


[1]- عبد الله حداد: ''تطبيقات الدعوى الإدارية في القانون المغربي''، منشورات عكاظ، الرباط، 1999، ص:84.
[2]- رضوان بوجمعة :''المقتضب في القانون الإداري المغربي''، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999، ص : 175.
[3]- ينص الفصل 23 الفقرة 6 من قانون 41-90 المتعلق بإحداث المحاكم الإدارية : ''لا يقبل الطعن الهادف إلى إلغاء قرارات إدارية إذا كان في وسع المعنيين بالأمر أن يطالبوا بما يدعونه من حقوق بطريق الطعن العادي أمام القضاء الشامل''.
[4]- ينص الفصل 24 من قانون 41-90 المتعلق بإحداث المحاكم الإدارية : ''للمحكمة الإدارية أن تأمر بصورة استثنائية بوقف تنفيذ قرار إداري رفع إليها طلب يهدف إلى إلغائه إذا التمس ذلك منها طالب الإلغاء صراحة''.
[5]- روسي (ميشيل) : ''المنازعات الإدارية بالمغرب''، ترجمة أمزيد الجيلالي ومحمد هيري، دار النشر الباب، الرباط، 1992، ص : 190.
[6]- http://www.studilty.free.fr/droitadministratif.
[7]- ظهير شريف رقم 323 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى، بتاريخ 18 أكتوبر 1957، الجريدة الرسمية عدد 2347 سنة 1957، ص: 1365.
[8]- محمد يحيا : ''المغرب الإداري''، مطبعة ووراقة سبارطيل، الطبعة الثالثة، 2004، ص : 15.
[9] -J.M. AUBY : « Droit public », Edition Economica, Paris, 1985, p : 587.
-[10] محمد يحيا: ''التحديد القضائي لمفهوم السلطة الإدارية في القانونين المغربي والفرنسي''، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 59، نونبر-دجنبر 2004، ص: 11.
-[11] لقد طبق القضاء الإداري هذا التوجه في مجموعة من الأحكام منها : قرار العباسي عبد العزيز، الغرفة الإدارية في 25 نونبر 1966، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 2، 1968، وقرار بداوي محمد ضد وزير التجارة والصناعة، 26 يناير 1977 وقرار المومني صادق 6 ماي 1977، الحكمين في المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، عدد 4، 1978، ص : 273.
[12]-A. LANG et autres : « Dictionnaire de droit administratif », Armand Colin, 4ème édition, Dalloz, 2005, p : 37.
[13]-M. DEVILLIERS : « Dictionnaire de droit constitutionnel », Armand-Colin, Paris, 6ème édition, 2007, p : 168.
[14]-M. DEVILLIERS : « Dictionnaire de droit constitutionnel » , op cit : 12.
[15]- المحكمة الإدارية الرباط، رقم الملف 168/95غ، حكم رقم 395 بتاريخ 21/12/1995، غير منشور.
[16]- تتلخص وقائع هذا القرار في :''أن قائد الخميسات كان قد أصدر قرارا بطرد الطاعن من مقهى ومطعم كان   يستغلها بالخميسات على وجه الشركة مع الغير بعد أن انتزع منه مفاتيحهما ليسلمها إلى أرملة شريك الطاعن''. إبراهيم زعيم الماسي : ''المرجع العملي في الاجتهاد القضائي الإداري''، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1996، ص : 94.
[17]- نفسه، ص: 94.
[18]- أنظر في هذا الصدد :
-D. BASRI : « L’agent d’autorité », Collection de la faculté des sciences juridiques, économiques et sociales, Rabat, 1975, p : 13.
[19]- عبد القادر باينة : ''القضاء الإداري، الأسس العامة والتطور التاريخي''، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1988، ص : 81.
[20]- المكي السراجي، نجاة خلدون : ''معيار القرار الإداري''، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 71، نونبر-دجنبر 2006، ص : 42.
[21]- يتعلق بمقرر اتخذه الكاتب العام لمجلس الاتحاد الفرنسي في إطار مهامه وسلطاته المخولة من طرف مكتب المجلس إذ يتعلق هذا المقرر بالتنظيم الداخلي للمجلس اعتبارا أن الفصول 69 وما تبعها من الدستور الفرنسي وقانون 6 يناير 1950 تنص على أن سير العمل بالمجلس الاتحاد الفرنسي يتم وفق القواعد المعمول بها في المجالس البرلمانية بالإضافة إلى أن التدابير الصادرة عنه لا تعتبر صادرة عن سلطة إدارية وبالتالي فإن طعن السيد VOUTRES ضد هذا المقرر المتخذ وفق هذه التدابير لا يدخل في اختصاص مجلس الدولة.
-Les grands arrêts du contentieux administratif, le conseil d’Etat,
www.conseil-etat.fr.
[22] Portée et limites du critère organique, www.courdedroit.free.fr.-
[23]- المكي السراجي، نجاة خلدون: نفس المرجع السابق، ص : 45.
[24]- المحكمة الإدارية بالرباط، حكم رقم 189، ملف 78/98غ، 18/03/1999، غير منشور.
[25]- عبد الله حداد: ''الوجيز في قانون المرافق العمومية الكبرى''، منشورات عكاظ، الرباط، أكتوبر 2001، ص : 23.
[26]- المكي السراجي، نجاة خلدون : نفس المرجع السابق، ص : 53.
[27]- ويمكن أن نضيف بهذا الصدد تعليق مكسيم أزولاي على هذا القرار قائلا : ''في قضية عبد العزيز 25 نونبر 1966 يستفاد منها أن المجلس الأعلى عندما يبت في جوهر الدعوى فقد سلم ضمنيا بأن القرار الإداري المنتقد الذي قضى بفصل الطالب من وظيفته يقبل الطعن عن طريق دعوى الإلغاء في حين المقرر المذكور تحكمه قواعد القانون الخاص لتعلقه بتنفيذ عقد خاص لا عقد إداري، وبالفعل، فإن الفصل الأول من ظهير تأسيس المجلس الأعلى عندما حدد اختصاصات المجلس أشار إلى دعاوى الإلغاء المرفوعة ضد مقررات السلطة الإدارية وبهذا يكون المشرع قد اقتصر في تحديد مفهوم القرار الإداري على الأخذ بالمعيار العضوي، فالمقرر الإداري هو الصادر عن سلطة إدارية بقطع النظر عن خضوعه لأحكام القانون العام أو القانون الخاص''.
في مجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد الثاني، 1962، ص : 104.
[28]- الفصل 360 من قانون المسطرة المدنية رقم 1.74.474 ''لا يقبل طلب الإلغاء الموجه ضد المقررات الإدارية، إذا كان في استطاعة من يعنيهم الأمر المطالبة بحقوقهم لدى المحاكم العادية''.
 -عبد الله إدريسي : ''قضاء تمييز منازعات وعقود العاملين بالمؤسسات العامة والاقتصادية''، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، العدد 8، 2003، ص : 9.
[29]- آمال المشرفي : ''نزاعات العاملين لدى المؤسسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية بين القضاء الإداري والقضاء العادي''، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، مواضيع الساعة، عدد 14، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1998، ص : 52. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق